الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        الورقة الثالثة

        العولمة وإنسان ما بعد الموحدين

        قراءة في كتاب (وجهة العالم الإسلامي)

        - مدخل:

        ما زلت كلما قرأت شيئا للأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله، أجد نفسي أمام أمرين:

        الأول: أنني في كل مرة أكتشف جوانب جديدة من فكر الرجل وعبقريته، وقدرته الفائقة على التحليل والغوص بعيدا لتحديد أصول المشكلات التي يبحثها.

        فهو لا يكتفي من الظاهرات بظواهرها، وإنما ينقب باحثا عن جذورها، شأنه في ذلك شأن عالم الآثار الذي يزيل الطبقة تلو الأخرى حتى يصل إلى مراده، فالقارئ لبن نبي يجد نفسه ينتقل عبر حفريات ممنهجة، تفضي به إلى نتائج لم تكن في حسبانه.

        وللرجل عين لاقطة شديدة الملاحظة، تكشف عن أدق الجزئيات والتفاصيل، وتربط الفروع بالأصول، وتتخذ من الجزئي دليلا على القاعدة [ ص: 91 ] الكلية، وهذه ميزة لا يؤتاها إلا القلائل من الباحثين الجادين والمخلصين في تناول مشكلات أمتهم.

        الثاني: أن ما خلفه بن نبي من تراث فكري، ما يزال يحتفظ - في الغالب من جوانبه- بجدته وطرافته، فهو أشبه ما يكون بمنجم تحت ركامه ثروات ثمينة، تنتظر من يكتشفها ويخرجها كنوزا ينتفع بها الناس.

        فما أبدعه، رحمه الله، من طرق في التحليل، وما اختطه من مسالك في معالجة المشكلات الفكرية أو بشكل أعم الحضارية، تعد دروسا تربوية من شأنها - إن أحسن تلقيها واستيعابها- أن تعيد للعقل المسلم قدرته على التفكير المنهجي المبدع، ومن ثمة قدرته على التصدي لمشكلاته وحلها بعيدا عن الانفعال العاطفي الأهوج أو التقليد المرضي الذي تضيع معه حدود (الذات) وخصائصها.

        ولعل من أغنى دروس بن نبي في هذا المجـال، تلك الوقفات النقدية، التي نجدها في العديد من كتبه، ولاسيما في كتاب (وجهة العالم الإسلامي)، إذ هي تعد - بحق - توجيهات تدريبية على كيفية استعادة (الروح النقدية) وتوظيفها في مواجهة ما يعترض المسلم المعاصر من تحديات.

        وإنما نقول: (استعادة الروح النقدية)، لأن العقل المسلم اكتسب ذات يوم تلك الروح، حين تشكل تشكلا قرآنيا، خرج به من ظلمات الجاهلية وقيودها، إلى نور الإسلام وحريته، فانطلق بهدي القرآن الكريم، يكسر قيود التقليد، ويعرض نفسه على البشرية في صورة القادر على الإنتاج والعطاء، [ ص: 92 ] فدانت له حضارات وسلمت لأستاذيته ثقافات... بيد أن هذا العقل انتكس ثانية وهوى في سجن التقليد، وتكاثرت حوله القيود، فكان من أبرز مظاهر تخلفه: اختفاء (الروح النقدية) وسيادة الفوضى في شتى مجالات الحياة الإسلامية، تخلف علمي، واستبداد سياسي وتفكك اجتماعي وحلول للخرافية محل العلمية... وكانت المحصلة عجز المسلم المعاصر عن فهم الحياة وفهم مشكلاتها، ومن ثمة غياب القدرة على تصور الحلول الناجحة واقتراحها.

        وإنما تكتسي محاولة بن نبي أهميتها، من حيث إنه أراد أن يعيد للعقل المسـلم قدرته على الإبداع، من غير دعـوة إلى القطيعة مع الأصول، فهو لا يتفق مع أولئك المفكرين والمصلحين الذين ظهروا في تاريخنا المعاصر، يبشرون بعقلانية ترفض التصالح مع الدين، وموضوعية لا تعترف بالمقدس، وعلمية لاتتجاوز بالعلم حدود الظواهر المادية، وإنسانية لا تريد للإنسان أية صلة بمصدر متعال...

        إن بن نبي، رحمه الله، يريد أن تكون دعوته حلا يساعد المسلم على النهوض، لا مشكلة أخرى تضاف إلى مشكلته الأصلية !!

        ولكم عانى المسلمون - ولا يزالون يعانون- من نخب تمسك بمقاليد الحياة الفكرية والثقافية، تصر على أن تصادم كل موروث حضاري للأمة، وتمارس عملها التخريبي هذا تحت شعارات ومقولات لم تأخـذ حظها عندهم من التفـكير والتحـليل، فكانت النتيجة أن انقضى من عمر الأمة ما يزيد عن قرن من الزمان، ونحن نخوض معارك بينية، يفتعل فيها الصراع [ ص: 93 ] بين مكونات الهوية حينا (الدين، اللغة) أو مكونات المجتمع حينا آخر (الصراع الإثني)... قرن من الزمان والتآكل الداخلي ينخر ما تبقى من أمة تعيش بعد سقوط حضارتها.

        واليوم نجد أنفسنا في مواجهة استعلاء غربي ذي نزعة إمبراطورية، هدفه أمركة العالم، بما يجعله سوقا دائمة لما يراد ترويجه من أفكار وسلع، اختير لهذا الاستعلاء اسم (العولمة)... ولقد أثار المصطلح منذ أن طرح في الساحة الدولية، جدلا ونقاشات كثيرة، وانقسم الناس حياله، بين راض به معتبرا إياه نتيجة طبيعية لما تحقق في عالم الاتصالات والتكنولوجيات الحديثة التي سهلت سيولة المعلومة وقلصت المسافات والأزمنة بين أطراف العالم، حتى غدا هذا العالم أقل من أن يوصف بأنه قرية صغيرة... وبين رافض له معتبرا إياه طبعة جديدة من الاستعمار الغربي،تحت غطاء إنساني، ومفاهيم كونية، ولكنه يهدف في النهاية إلى تحطيم كل ما حققه الإنسان الغربي نفسه من ديمقراطية ورفاهية، فضلا عن زيادة بؤس الشعوب التي تعيش خارج المجال الغربي... وبين هذين الصنفين صنف آخر لم تتحدد رؤيتهم بعد تجاه هذه الظاهرة المثيرة للجدل وكأنهم وجدوا أنفسهم أمام أدلة متكافئة!!

        والحق أن كل فريق من الفريقين الأول والثاني، يجد في واقع الممارسات العملية ما يدعم وجهة نظره، فلا أحد ينكر التطور الذي أحدثته ثورة المعلوماتية، وكيف أنها أزالت حاجزي الزمان والمكان وقربت بين الشعوب والحضارات قربا لم تعرفه البشرية في تاريخها من قبل، فما عاد البعد المكاني [ ص: 94 ] يصلح أن يكون وسيلة ليحافظ مجتمع ما على خصوصيته، بل إن مفهوم الخصوصية لدى البعض ليس سـوى وهم من بقايا مرحلة ما قبل العولمـة أو على حد تعبير أحدهم وهم الشعوب التي تعيش مرحلة ما قبل نهاية التاريخ!!

        كما لا أحد ينكر أيضا الوجه الاستعماري لهذه العولمة المتأمركة.

        بيد أن الذي تجدر الإشارة إليه في هذا المقام، أن الوجه الاستعلائي الذي تبنته الإدارة الأمريكية، يجد سنده النظري لدى صاحب (نهاية التاريخ)، كما يجده عند صاحب (صدام الحضارات)، فكلا الرجلين أمريكي يروج لهيمنة القوة الأولى في العالم، من خلال منطق (النهايات)، الذي يتوقف بالمسيرة الحضارية للإنسان عند حدود ما أنتجه النموذج الأمريكي، أو من خلال ما سيؤول إليه الصراع والصدام بين حضارات غير متكافئة من حيث القوة المادية، مما يجعل النتيجة محسومة سلفا لصاحب القوة... فالتاريخ انتهى عند "فوكوياما" كما انتهى عند "هنتغتون"، بيد أن الأول حسم المعركة لصالح الهيمنة الأمريكية سياسيا واقتصاديا، والثاني أجل الإعلان عن النتيجة إلى ما بعد حدوث المعركة الفعلية واشتباك الحضارات فعليا مع استبطان اليقين بغلبة من بيده مفاتيح القوة التكنولوجية اليوم.

        ووسط هذا الجدل حول مفهـوم العولمـة، انقسمت النخب العربية -كعادتها- بين مؤيد لهذا الفريق أو ذاك، وانشغلت - أيضا كعادتها- بمعارك (الغير) عن أصل المشكلة، فرحنا نناقش أفكار النخبة الغربية، دون أن نلتفت إلى أنفسنا بالسؤال: (هل نحن في مستوى مواجهة هذه العولمة؟)، أو: (ما الذي علينا فعله إزاء هذه العولمة؟). [ ص: 95 ]

        وها هنا تبرز أهمية الدرس الذي يقدمه بن نبي، رحمه الله، في مسألة التعامل مع الظواهر، ذلك أنه من خلال بحثه في مشكلة الحضارة، قدم لنا أنموذجا لكيفية النظرة الصحيحة لمثل هـذه المشكلات، ورسم أمامنا الطريق الواضحة للخروج من الهيمنة الاستعمارية.

        فهو يؤمن بأن الإنسان هو جوهر تلك الحضارة، ومرتكز كل إصلاح وتغيير، وقاعدة كل مواجهة مع الاستعمار... وهذه حقيقة غابت - ولا تزال غائبة - عن وعي العـديد من دعـاة الإصـلاح و (التنوير) في عالمنا العربي والإسلامي.

        فتحليل بن نبي لظاهرة الاستعمار، ولوضعية الإنسان المسلم في منتصف القرن العشرين، تعلمنا كيف يمكن للباحث الجاد أن يضع أصبعه على أصل المشكلة، وترشدنا إلى الوجهة السليمة في تحليل ظاهرة (العولمة).

        وهذا ما دفعنا لإعادة قراءة كتاب (وجهة العالم الإسلامي)، في ضوء ما نواجهه اليوم من تحدي العولمة.

        فإذا كان الاستعمار - كما يؤكد بن نبي - لا يمكن استيعابه كظاهرة، ولا يمكن بعد ذلك مقـاومته بوعي، إلا إذا تخـلصنا من مشكلات إنسان ما بعد الموحدين، أقول إذا كان الأمر كذلك عند بن نبي في منتصف القرن العشرين، فهل تغيرت حال المسلمين، وهم في بداية القرن الواحد والعشرين، يواجهون استعمارا جديدا تحت مسمى العولمة؟

        هذا ما نصبو للإجابة عنه من خلال هذه القراءة. [ ص: 96 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية