الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        1- المحاولات الإصلاحية المرتبطة بضمير المسلم:

        نقد بن نبي للحركات الإصلاحية (الحركات الإسلامية/التيار الإسلامي) من المسائل الجديرة بالدراسة والتأمل، ليس لأنها تشكل ممارسة منهجية في كيفية تحليل الظواهر الاجتماعية ودراستها فحسب، وإنما أيضا لأنها وضعت الأصبع على كثير من العلل التي صاحبت نشاط الحركات الإصلاحية، وكانت في العديد من المراحل التاريخية عوامل فشل المشروع الإصلاحي أو ابتعاده عن أهدافه.

        والدارس لهذه الوقفات النقدية، يجد أن بن نبي توسل بالقراءة التاريخية المستوعبة والمتجاوزة للأسباب القريبة، وكذلك بالأدوات المنهجية التي استفادها من إطلاعه على الثقافة الغربية ولا سيما في شقها العلمي التجريبي، فالنظرة العلمية التي تتناول الظواهر ضمن السياقات الكبرى وكذا العقلانية التي تسعى إلى ربط النتائج بالمقدمات والحركة الجدالية بين التحليل والتركيب، كل هذا يتجلى في الممارسة النقدية التي سلطها مهندس الحضارة - في فقرات تتسم بالتكثيف والتركيز - على ظاهرة الحركة الإصلاحية. [ ص: 121 ]

        وأول ما يصادفنا ونحن نقرأ تحليل بن نبي لحركة الإصلاح، أنه يعتبرها مثلها مثل خصمها - تيار التجديد - رد فعل للقاء المجتمع الإسلامي بالحضارة الأوروبية... فاللقاء مع الحداثة الأوروبية شكل صدمة للمجتمع المسلم الذي كان يعيش في جو (السكون) والركود بعد أن هجرته حضارته، وخدرت وعيه الحضاري تلك الثقافة المغشوشة التي أعطته صورة زائفة عن (الذات)، فالمسلم قبل تلك الصدمة، كان لا يزال يعيش متوهما أنه متحقق بأوصاف (خير أمة أخرجت للناس)، لكن لقاءه مع الحداثة زلزل كيانه وهزه بعمق، وجعله في مواجهة مع ذاته وحقيقته، ليكتشف الفراغ المفزع بين الصورة المثالية عن (الذات) المتفوقة، وبين الواقع الغارق في التخلف وأسبابه.

        لقاء شكل صدمة، والمصدوم في لحظة صدمته، يتحرك استجابة لرد الفعل، أكثر مما يتحرك بوعي تام وإدراك كامل لما يريد، وها هنا تكمن أهمية ملاحظة بن نبي حول ظروف نشأة الحركات النهضوية بشقيها في العالم الإسلامي.

        يقول - بعد أن أشار إلى دور اللقاء بين الحضارة الأوروبية الصاعدة وبين المجتمع الإسلامي -: "لقد وجد المسلم أن عليه أن يبحث عن أسلوب في المعيشة يتفق وشرائط الحياة الجديدة في المجالين الخلقي والاجتماعي.

        ولسوف نجد أن الحركات التاريخية ستولد عما قريب من ذلك البحث الغامض الذي امتزج بقلق قديم خلفته في الضمير الإسلامي منذ قرون كتب ابن تيمية، وهي الحركات التي ستخلع على العالم الإسلامي صبغته الراهنة. [ ص: 122 ]

        وهذه الحركات قد صدرت عن تيارين: تيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم، وتيار التجديد وهو أقل عمقا وأكثر سطحية، وهو يمثل مطامح طائفة اجتماعية تخرجت في المدرسة الغربية" (ص48).

        واستعمال بن نبي لمصطلحي (الإصلاح) و (التجديد)، في التمييز بين تياري النهضة، نقطة ثانية تستوقف الباحث؛ لأن ما عرف به بن نبي من دقة في تخير المصطلح، تجعلنا نعتقد بأن الأمر لم يكن مجرد اختيار لغوي، بل نرى أن لكل مصطلح ظلاله التي يلقيها على مضمون المشروع الذي تبناه كل تيار من تياري النهضة، وإن اشترك التياران - كما قلنا - في كونهما ردة فعل لصدمة اللقاء مع الحداثة الغربية.

        فالإصلاح يعبر عن عقلية ونفسية أولئك العلماء والمصلحين الذين يرون بأن علاج الأزمة يجب أن يتم بالمحافظة على تميز (الذات) عن (الآخر)، فالأمة في نظرهم في حـالة مرض وتحتاج إلى إصلاح وعـلاج يستهدف ما أصابها من أمراض واختلالات.

        أما مصطلح التجديد، فيمثل نظرة أولئك المصلحين الذين تشكلت نفسيتهم وعقليتهم بحسب محددات الثقافة الغربية ومفرداتها، فهم في حالة استلاب تام، غرضهم من الإصلاح إعادة بناء الأمة على أسس جديدة وفقا لمنظومة القيم الغربية.

        وحركة الإصلاح، تلك التي وصفها بن نبي بكونها مرتبطة بضمير المسـلم، تمثلت عنده أسـاسا في شـكلها المعاصر، في الجهـود التي قام [ ص: 123 ] بها مصـلحان عظيمان، هما السيد جمال الدين الأفغـاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، وإن كانت أصولها تمتد إلى عصر ابن تيمية في القرنين السابع والثامن الهجريين.

        فهو بنوع من التجاوز، يحاول أن يرسم خطا تاريخيا واصلا بين رموز الحركة الإصـلاحية منذ ابن تيمية ووصـولا إلى الأفغاني وعبده مرورا بابن تومرت ومحمد بن عبد الوهاب، وهذا الوصـل قد لا نتفق فيه مع الأستاذ إذا ما حللنا طبيعة كل دعوة من هذه الدعوات ومضامينها، فسنجد بينها اختلافات تصل إلى حد التنافي والتناقض، ولكن بالقراءة المتأنية نكتشف أن بن نبي في هذا المقام لم يكن بصدد التحليل والمقارنة بين هذه الدعوات ومناهجها الإصلاحية، وإنما نظر إلى الجامع المشترك بينها، المتمثل في الروح التي حركت أولئك المصلحين، وهي الرغبة في إحيـاء الأمة وتجديدها... فلا يعنيه هنا أن يكون ابن تيمية فقيها أو عالما، بقدر ما يعنيه أن يكون ثائرا يقـذف بقلقه وثورته في ضمـير الأمة، يقول: "وابن تيمية لم يكن (عالما) كسائر الشيوخ ولا متصوفا كالغزالي، ولكن كان مجاهدا يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي" (ص49).

        بهذه الروح، وانطلاقا من هذه الزاوية تناول بن نبي جهود الأفغاني وعبده، ليكشف بعمق نقدي مكامن الصواب والخطأ في عمل الرجلين.

        ووقوفه مع هذين العلمين، يؤكد مرة أخرى قدراته النقدية وموهبته الاستشرافية، إذ سيلاحظ الدارس أن التوصيفات التي أعطاها الأستاذ لدعوة [ ص: 124 ] الأفغاني وعبده، هي ذاتها التي لا تزال تحكم وتؤطر المقولات الكبرى للتيار الإسلامي، كما أن الأخطاء و النقائص التي لا حظها على جهودهما، تكاد تكون في جوهرها - وإن اختلفت المظاهر - الأخطاء والنقائص ذاتها التي يتكرر وقوعها من طرف الحركات الإسلامية.

        ولعله من المفيد أن نقف على الصورة التي رسمها الأستاذ للأفغاني وعبده، والتي يمكن استخلاصها من تلك الفقرات الكثيفة التي كتبها على امتداد الصفحات(47-62).

        أ- الأفغاني: إصلاح النظم السياسية أم إصلاح الإنسان؟

        يبدو بن نبي معجبا بالأفغاني أيما إعجاب، فهو يصفه بأنه الضمير الذي عكس طموحات الحركة الإصلاحية منذ عهد ابن تيمية، وهو الذي دشن عصر (رجل الثقافة والعلم) في العالم الإسلامي، مما جعله يستقطب الشباب المسلم، فينفث في أرواحهم وعقولهم القلق الذي يحركهم من أجل التغيير، وهو الذي تصدى للنظم البالية والأفكار (التجديدية) المميتة، وهو في النهاية بطل الحركة الإصلاحية وأسطورتها في العصر الحديث.

        كل هذا الإجلال والتقدير لشخص الأفغاني، لم يحل بين بن نبي وبين القراءة النقدية العميقة لدعوته من حيث المضامين والأهداف والوسائل، ضمن السياق التاريخي الذي ظهر فيه وتحرك من خلاله.

        فلاحظ أن الأفغاني تحرك بدافع (القلق) والتوتر الذي أحدثته الأوضاع المزرية التي آل إليها المجتمع الإسلامي، فمجتمع ما بعد الموحدين كان يفرض [ ص: 125 ] على الإنسان المسلم إما أن يكون (ضحية أو متملقا) (ص49)، وهذه وضعية تدفع ذوي الضمائر الحية إلى البحث عن مخرج يحفظ للإنسان إنسانيته وللدين قدسيته وللمجتمع كينونته.

        فتحرك الأفغاني ليكسر الصمت المطبق الذي خيم على العالم الإسلامي منذ عقود، فكان "أول من جرؤ منذ قرن على التحدث عن (الوظيفة الاجتماعية للأنبياء) في عالم ساقط هو (عالم ما بعد الموحدين)" (ص50).

        فالأفغاني تفطن - بحسب بن نبي - إلى البعد الغائب في علاقة المسلمين بدينهم والذي شكل أساس أزمتهم وتخلفهم الحضاري، أعني الوظيفة الاجتماعية للدين، أو بعبارة أخرى التدين الاجتماعي.

        فهو - أي الأفغاني - بفطرته وعلمه وثقافته تفطن إلى المشكلة، ولكن هل تفطن إلى أنه يتعامل مع مجتمع (ساقط هو مجتمع ما بعد الموحدين) بكل الخصائص التي سبق وبينها بن نبي عندما تحدث عن إنسان ما بعد الموحدين؟

        إن هذا السؤال الذي يثيره تحليل بن نبي لجهود الأفغاني، يضعنا -ونحن نواجه ظاهرة العولمة- إزاء أحد وجوه الخلل لدى الحركات الإصلاحية/الإسلامية، وذلك حين ينفصل تشخيص الأزمات وتصور الحلول عن القراءة العميقة للواقع وظروفه، أو حين تعطى الأولوية للعمل على حساب التعمق النظري في دراسة الأزمة وأبعادها... وكأننا لا نزال إلى الآن، يستهوينا أن نتحرك بدافع (القلق) وردود الأفعال المباشرة والساذجة، لا بدافع التفكير والوعي. [ ص: 126 ]

        وبن نبي ليكون موضوعيا ومنصفا للأفغاني، يضعنا في الظروف التي تحرك فيها الرجل، فبين أنه جاء ليواجه واقعا بائسا تتحكم فيه دسائس الاستعمار والأنظمة العميلة من جهة، وأفكار التغريب التي أخذت تنتشر من طرف النخبة المثقفة ثقافة غربية من جهة أخرى، فما كـان عليه - والحال بهذا الاضطراب والتجاذب - إلا أن يتقمص دور المحارب والمقاتل أكثر من دور المفكر والمنظر، فهو بنظر بن نبي "لم يكن قائدا أو فيلسوفا للحركة الإصلاحية الحديثة، فلقـد كان رائدها حين حمل ما حمل من القلق ونقله معـه أينما حل" (ص51)... وبذلك تحدد دوره، فلم "يكن دور مفكر يتعمق المشكلات لينضج حلولها، فإن مزاجه الحاد لم يكن يسمح له بذلك، لقد كان قبل كل شيء مجـاهدا، ولم تكن ثقافته النادرة سوى وسيلة جدلية، مهما هبطت أحيانا إلى مستوى الجماهير، فأصبحت وسيلة نشاط ثوري

        [1] " (ص50). [ ص: 127 ]

        وباختصار، فإن عمل الأفغاني - بحسب بن نبي - تمثل في إعلان "الحرب ضد النظم البالية والأفكار المميتة [2] " (ص50).

        إن القلق الذي حرك الأفغاني ودفعه إلى إعلان الحرب، جعله يتلمس طريق الإصلاح والنهوض بالأمة من كبوتها، ولكن إدراك الحاجة إلى الإصلاح شيء، والقدرة على تصور الحلول المناسبة شيء آخر... وهاهنا يضع بن نبي أمامنا ما يتصوره خللا في إدراك الأفغاني لحجم الأزمة، ومن ثمة الخلل في وضع الحل المناسب لها.

        فالأفغاني - بحكم مزاجه الحاد وتكوينه الثقافي والسياسي - كان يرى أن الإصلاح يبدأ بإعادة الكيان السياسي للأمة، وتخليصها من الاستعمار والنظـم البالية على حـد سـواء... والإصـلاح السياسي مسـألة مهمة -ولا شك- في إعادة البعث الإسلامي من جديد، فلا أحد ينكر دور البعد السياسي في تكوين الأمة منذ فجر تاريخها الأول، منذ دولة المدينة المنورة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه حقيقة لا يكاد يتنكر لها أي مصلح ممن عرف في تاريخنا المعاصر كواحد من المجددين أو دعاة النهضة والبعث الإسلامي. [ ص: 128 ]

        فلم يكن الأفغاني بدعا في هذا الأمر، بيد أن المشكلة تكمن في تصور مضمون هذا الإصلاحي السياسي، وحدود علاقته ببقية النظم الحاكمة للمجتمع، وقبل ذلك وبعده، علاقته بالإنسان كفرد، باعتباره هو مركز العملية الإصلاحية.

        فالفرق شاسع بين من ينظر إلى الإصلاح السياسي باعتباره جهودا تنصب على تغيير النصوص القانونية أو استحداث مؤسسات وحذف أخرى، وبين من ينظر إليه باعتباره إعادة بناء للإنسان على أسس مفهومية جديدة... وهاتان نظـرتان تحكمان تيارات الحركة الإسلامية المعاصرة، خصوصا تلك التي سمحت لها الظروف بأن تدخل معترك النشاط السياسي.

        وبن نبي - وهو يقرأ تجربة الأفغاني - كان كأنما يشرح حالة لا تزال متحكمة في تفكير وسلوك شريحة من أبناء الحركات الإسلامية، وكم كان من المفيد لو استمع القائمون على شؤون تلك الحركات لهذه التنبيهات العميقة الدقيقة، يقول: "وكان رائدها - أي الـحركة الإصلاحية - أيضا حين جهد في سبيل إعادة التنظيم السياسي للعالم الإسلامي، وإن كان قد قصد بذلك التنظيم: تنظيم جموع الشعب وإصلاح القوانين، دون أن يقصد إصلاح الإنسان الذي صاغه عصر ما بعد الموحدين.

        لقد أدرك جمال الدين بصادق فطنته، ما أصاب مجتمعه من عفونة وفساد، فاعتقد أنه بدلا من أن ينصرف إلى دراسة العوامل الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع، يستطيع أن يقضي عليه بالقضاء على ما يحيط به من نظم وقوانين. [ ص: 129 ]

        وربما كان هذا الرأي صادقا، لو أنه أدى إلى الثورة الضرورية، فإن الثورات تخلق قيما اجتماعية جديدة صالحة لتغيير الإنسان، بيد أن جمال الدين لم يحسن تشخيص الدافع إلى تلك الثورة، وما كان لثورة إسلامية أن تكون ذات أثر خلاق، إلا إذا قامت على أساس (المؤاخاة) بين المسـلمين، لا على أساس (الأخوة) الإسلامية، وفرق بين (المؤاخاة) و (الأخوة)، فإن الأولى تقـوم عـلى فعل ديناميـكي، بينما الثانية عنوان على معنى مجرد، أو شعور تحجر في نطاق الأدبيات.

        و (المؤاخاة) الفعلية، هي الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي... مجتمع المهاجرين والأنصار" (ص51- 52).

        بهذا الوضوح، بين بن نبي بنية تفكير أولئك الذين يريدون تغيير الأوضاع بمنطق الثورة، دون أن يعدوا للثورة مقتضياتها، وأولئك الذين يختزلون مفهـوم الإصـلاح في إجراءات شـكلية تمس المنظومة القانونية أو التنظيمات الاقتصادية، دون أن يفكروا بشكل جدي في العناية بأساس التغيير وهو الإنسان.

        واستعراض تاريخ الحركات الإسلامية في العصر الحديث يؤكد صواب بن نبي ودقة تحليلاته، إذ سنجد الفشل الذي لاحق أصحاب الدعوة إلى التغيير بمنطق الانقلاب والثورة والمغالبة، كما نجد الفشل الذي لاحق أولئك الذين وصلوا إلى السلطة من الأعلى... حيث ثورة الأوائل انزلقت إلى ممارسات للعنف تحت مسمى الجهاد، وانتهت سلطة الآخرين إلى ممارسات قمعية لا تقل سوءا عن ممارسات النظم التي جاءت كبديل عنها. [ ص: 130 ]

        الأفغاني - بحسب بن نبي - كان رجل ثورة، فكر في الإصلاح، لكنه أخطأ الطريق مرتين:

        - مرة عنـدما قصر مفهوم الإصلاح على تنظيم جموع الشعب وإصلاح القوانين، دون أن يتوجـه إلى العناية بالإنسان الذي أفرزته مرحلة ما بعد الموحدين.

        - ومرة عندما نهج منهج أصحاب الثورات، دون أن يعد للثورة مقتضياتها، ودون أن يتعمق منطلقاتها النظرية، فتبنى مفهوم (الأخوة الإسلامية) بدل (المؤاخاة الإسلامية)، وبين المفهومين ما بينهما من التمايز، إذ الأول مفهوم منجز مجرد، بينما الثاني ديناميكي متحرك، وهو الأنسب والأقرب ليكون قاعدة للتغيير الثوري.

        والرؤية الأفغانية، وإن أحدثت في النفس التوتر والقلق، لا يمكنها أن تحـدث التغيير؛ لأن التغيـير عملية معقـدة من الضـروري أن يتـكامل فيها التحديد النظري للمشكلات مع التحديد الواعي للحلول ومقتضياتها.

        وإذا ربطنا هذه الجزئية بما نحن بصدده في هذه الدراسة، وهو مدى قدرة حركات التغـيير على الوفاء بشروط التعامل مع ظاهرة العولمة (قبولا أو ردا)، فلنا أن نسائل الحركات الإسلامية - ما دمنا نتحدث عن تيار الإصلاح - التي تتبنى شعار الثورة والتغيير والرفض: هل يمكن أن تكون رؤيتها صالحة لعصمة الأمة من آثار هذه العولمة ؟... وهل ثورتها ورفضها للواقع يستند إلى دراسة موضوعية لإنسان ما بعد الموحدين؟... أم أن الأمر لا يعدو أن يكون دعوة إلى التغيير دون استشراف لما بعد التغيير؟ [ ص: 131 ]

        ب- محمد عبده: التحول في مفهوم المشكلة:

        مع محمد عبده، ينقلنا بن نبي إلى مسلك آخر من مسالك الحركة الإصلاحية الحديثة، ويضع بين أيدينا ملاحظات نقـدية بالغة العمـق والأهمية، لا تكمن أهميتها في كونها تعالج تجربة تاريخية مهمة فحسب، وإنما أيضا لأنها شكلت مناسبة لنقد ثقافة ما بعد الموحدين، وهي الثقافة التي لا تزال كثير من نقائصها تطبع حياتنا الفكرية وتتحكم في عقول وسلوك دعاة الفكرة الإحيائية.

        فإذا كانت مواجهة العولمة، لابد وأن تكون في المقام الأول مواجهة ثقافية، فهل بإمكاننا أن نواجهها بثقافة ما بعد الموحدين؟

        وإذا كانت القوى الإسلامية تمثل كتلة (الممانعة) في معركة مجتمعنا الإسلامي اليوم، فهل سيكون لممانعتها تأثير إذا ما ظلت متلبسة بأخطاء الماضي ونقائصه؟

        من هذين السـؤالين وغيرهما تبرز قيمة الملاحظات النقدية التي ساقها بن نبي في إطار قراءته لتجربة محمد عبده، وهي ملاحظات جديرة بالتأمل والقراءة لمن يريد أن لا يكتفي من الأمور بمظاهرها، ولا من القضايا المهمة بعناوينها وشعاراتها، وهي - مع الأسف - آفة العديد ممن يحدثوننا عن العولمة اليوم، قبولا وردا.

        يبدأ بن نبي حديثه عن محمد عبده بربط الرجل بمنشئه الاجتماعي، ومن ثمة بيان المؤثرات البعيدة التي أثرت على توجهه الفكري وقراءته لأزمة المجتمع الإسلامي. [ ص: 132 ]

        فهو نظر إلى المشكلة "بوصفها مشكلة اجتماعية" (ص53)، بخلاف أستاذه الأفغاني الذي نظر إليها باعتبارها مشكلة سياسية، على الرغم من أنه - نظريا - كان أول من طرح السؤال حول الوظيفة الاجتماعية للأنبياء.

        فالفكرة تحددت في ذهن الشيخ محمد عبده، باعتبار مشكلة العالم الإسلامي اليوم تكمن في تخلخل البنية الاجتماعية، تخلخلا يتجاوز في عمقه مظاهر القصور التي طبعت مؤسساته السياسية، ليمس جوهر العلاقات الاجتماعية التي حرص الإسلام على إرسائها والعناية بها.

        وبن نبي لا يرجع إدراك محمد عبده لهذه الحقيقة المهمة إلى ذكائه فقط - فالأفغاني تميز أيضا بالذكاء والفطنة - وإنما يرجعها إلى عاملين: البيئة الاجتماعية والخلفية التعليمية.

        يقول: "كان الشيخ عبده مصريا أزهريا، ومصر منذ عهود سحيقة أمة زراعية مرتبطة بالأرض، أي أنها كانت على طول التاريخ مجتمعا يتكون فيه الفرد وسـط جماعة، فهو لذلك مزود بغريزة الحياة الاجتماعية، والأزهر من ناحية أخرى كان يمد الحياة الاجتماعية بعقليات متمسكة بدينها محافظة على أصولها.

        وبهذا التكوين واجه الشيخ عبده مشكلة الإصلاح، فبعد أن أدرك حقيقة المأساة الإسلامية وجد من الضروري أن ينظر إليها بوصفها مشكلة اجتماعية، على حين أن أستاذه جمال الدين ذا العقل القبلي العفوي قد تناولها من الزاوية السياسية" (ص52-53). [ ص: 133 ]

        يبدو أن الحركة الإصلاحية مع عبده - كما يرى بن نبي - قد خرجت من مرحلة التعامل مع المشكلة بدافع القلق كما كان عليه الحال مع الأفغاني، لتدخل مرحلة التعامل العقلاني الذي يحتكم إلى الوعي وتعميق التفكير حول المشكلات ومن ثمة إنضاج الحلول المناسبة لها، وهي قفزة نوعية ومهمة في الوقت ذاته؛ لأنها بشكل أو بآخر، كانت بالغة التأثير على كل الحركات الإصلاحية التي ظهرت من بعد، سواء في مشرق العالم الإسلامي (مع محمد رشيد رضا) أم في مغربه (مع الإمام ابن باديس ورجال جمعية العلماء).

        فمحمد عبده اكتشف ما غاب عن أستاذه، ولكنه مثله أيضا أخطأ الطريق في تصور الحل المناسب للمشكلة... فهو قد اقتنع بأن أساس المشكلات التي وقع فيها العالم الإسلامي هو (الفرد) وعليه فكل تغيير يجب أن يستهدف تغيير الفرد، يقول بن نبي: "فلقد كان الشيخ عبده يعلم علم اليقين، أنه لكي يحقق الإصلاح يجب أن يبدأ خطوته الأولى من (الفرد)، ولقد وجد أساس هذه الفكرة في كتاب الله حيث قال: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11)، في هذه الآية - التي أصبحت شعار تلك المدرسة ولا سيما عند الإصلاحيين بشمال إفريقية - نجد أن نفس الفرد هي العنصر الجوهري في كل مشكلة اجتماعية" (ص53).

        "فكيف نغير هذه النفس؟" [ ص: 134 ]

        من هذا السؤال ينطلق بن نبي لبيان نقطة (التحول) في تشخيص الشيخ محمد عبده للمشكلة، ذلك أن الشيخ - بحكم نشأته الاجتماعية وتكوينه الأزهري - أدرك - كما قلنا - المشكلة في عمومها، ولكنه عندما حاول تحليلها وإيجاد الحل المناسب لها، تحرك عقله (الأصولي) ليغلب الجانب النظري البحت، فظن "كما ظن فيما بعد الدكتور محمد إقبال، أن من الضروري إصلاح (علم الكلام) بوضع فلسفة جديدة حتى يمكن تغيير النفس" (ص53).

        هكذا يكشف بن نبي عن الخلل الذي انزلق إليه محمد عبده في تصور علاج مشكلة المسلمين، بعد أن أشاد بحسن إدراكه بل وبتفوقه على أستاذه في هذا الأمر، حينما اعتبر مشكلة المجتمع الإسلامي المعاصر (مشكلة اجتماعية) أساسها (الفرد) الذي يجب تغييره.

        ولكن ألا يمكن أن نعترض على بن نبي في تخطئته لعبده، بأن ننظر للحل الذي اقترحه الرجل من زاوية أخرى قد تكشف عن وجاهته وتناسبه مع المشكلة؟

        وذلك بأن نفسر الأمر على النحو الذي يجعل الحل مرتبطا حقيقة بالمشكلة، فالمشكلة كما حددها عبده، (اجتماعية) أساسها (الفرد)، فإذا قلنا: إن الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي هو الأساس العقدي، فيكون كل خلل في جانب العقيدة مؤثرا ولا شك على الجانب الاجتماعي، [ ص: 135 ] ومن ثمة يكون كل تفكير ومسعى لإصلاح المجتمع لا بد وأن يمر عبر إصلاح العقيدة، ومحمد عبده - من بعده إقبال وغيرهما - حينما أدرك هذه الحقيقة، سعى إلى أن يعيد للعلاقات الاجتماعية حيويتها عبر إصلاح مصدر هذه الحيوية وهو (العقيدة)، ومن هنا لا يكون مجانبا للصواب إن هو اعتبر إصلاح علم الكلام مقدمة ضرورية لإصلاح النفس ومنه إصلاح المجتمع... وهذه زاوية تختلف عن الزاوية التي قرأ من خلالها بن نبي مشروع الشيخ محمد عبده الإصلاحي.

        قد يكون هذا الاعتراض على بن نبي مقبولا، ويبدو أنه افترض سلفا أن هنالك من سيعترض على تحليله بمثل اعتراضنا، فبادر إلى شرح وتحليل أسباب رفضه ونقده للحل الذي اقترحه محمد عبده.

        فهو يرى أن (علم الكلام) لا يمكنه أن يعيد للفرد المسلم (فعاليته)، وذلك بحكم محدودية تأثيره على النفس البشرية من ناحية، وبحكم الصياغة التي آل إليها هذا العلم من ناحية أخرى، هذا فضـلا عن أن الأزمة التي يعاني منها المسلم (فردا ومجتمعا) أعمق من أن تختزل في مشكلة (كلامية)، بل إن تعمق التفكير في الحالة الإسلامية يبين أن المشكلة لا علاقة لها أصلا بعلم الكلام؛ لأن المسلم لم يفقد صلته (بالعقائد) كي نزوده بأدلة وحجج، وإنما الذي فقده هي تلك الفعالية أو الروح الدافعة التي كانت تميز أسلافه، والفعالية مشكلة تقع خارج اختصاص علم الكلام، الذي هو - بحسب تعريف ابن خلدون - "علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة [ ص: 136 ] العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة" [3] .

        فالمشكلـة اجتمـاعية أساسها الخـلل المرتبط بالفرد، والحـل هو تغيير النفس، والنفس - بما تراكم عليها من مخلفات عصر ما بعد الموحدين - لا يمكن أن يغيرها علم الكلام، من هذا الزاوية كان رفض بن نبي للحل الذي اقترحه محمد عبده، وإن أشاد بجهده الإصلاحي في مجال علم الكلام، من خلال التنويه بقيمة (رسالة التوحيد)، واعتبارها (حدثا) فكريا لم ير له العالم الإسلامي مثيلا منذ عصر ابن خلدون (ص56)، بيد أن الدواء، وإن حمل قيمته في ذاته من حيث دقة الصنعة وعبقرية الصانع، يظل قليل الجدوى إن لم يتطابق مع الداء الذي يفتك بجسـد المريض، وهذا - مع الأسف - ما ينطبق على الحل الذي قدمه الشيخ محمد عبده لمشكلة الأمة.

        يقول بن نبي - ملخصا نقده لمشروع عبده -: "فلقد ظن - كما ظن فيما بعد الدكتور محمد إقبال - أن من الضروري إصلاح (علم الكلام) بوضع فلسفة جديدة له، حتى يمكن تغيير النفس.

        بيد أن كلمة (علم الكلام)، ستصبح قدرا مسلطا على حركة الإصلاح، القدر الذي حاد بها جزئيا عن الطريق، حين حط من قيمة بعض مبادئها الرئيسية، كمبادئ (السلفية)، أي العودة إلى الفكرة الأصيلة في الإسلام، فكرة (السلف). [ ص: 137 ]

        وعلـم الكلام لا يتصل في الواقع بمشكلة النفس، إلا في ميدان العقيدة أو المبدأ، والمسلم، حتى مسلم ما بعد الموحدين لم يتخل مطلقا عن عقيدته، فلقد ظل مؤمنا متدينا، ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي، فأصبحت جذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد متحلل من صلاته بوسطه الاجتماعي، وعليه فليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة: إن مشكلتنا ليست في أن (نبرهن) للمسلم على وجود الله، بقدر ما هي أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه باعتباره مصدرا للطاقة.

        وتغيير النفس معناه إقدارها على أن تتجاوز وضعها المألوف، وليس هذا من شأن (علم الكلام)، بل هو من شأن منهاج (التصوف)، أو بعبارة أخرى هو من شأن علم لم يوضع له (اسم) بعد، ويمكن أن نسميه (تجديد الصلة بالله).

        والتصوف الذي قاد إلى دروشة المرابطين وشعوذتهم، لا يمكن أن يقدم لنا الأساس الضروري للإصلاح، عنـدما نحث جهـودنا إلى النهضة، فهو لا يستهدف سوى تطهير بعض الأنفس من الخطايا، على حين يهدف الإصلاح إلى توفير الدافع الداخلي إلى جماهير الشعب، تلك الجماهير المتعطشة إلى (انتفاضة القلب) كيما تنتصر على ما أصابها من خمود" (ص53- 54). [ ص: 138 ]

        إذن مفهوم الإصلاح الذي يتبناه بن نبي، ويحاكم إليه ما اقترحه غيره من المصلحين، هو الإصلاح الشامل الذي يعيد لتدين المسلم فاعليته الاجتماعية، وهو بهذا مهمة لا يمكن أن يقوم بها علم الكلام - كما يرى عبده - لأن هذا العلم يتصل بجزء من المشكلة فقط ويعالج طرفا منها فحسب، وهو ليس الجزء المهم في واقع المسلمين اليوم؛ لأن الأزمة ليست في فقدان الإيمان كمبدأ على مستوى التصورات، وإنما في فقدانه كروح وفعالية على مستوى العلاقات والسلوك.

        كما لا يمـكن أن يقوم التصـوف بمهمة الإصلاح الشامل أيضا؛ لأنه -وإن تغاضينا عن الانحرافات التي أصابت المنتسبين إليه - لا يهدف إلا إلى تغيير النفس على مستوى الفرد كفرد، أي كخلاص فردي مقطوع الصلة بالآخرين، والنهضة تحتاج إلى تغيير الفرد ضمن الكل الاجتماعي.

        وبن نبي يرجع إخفاق الشيخ محمد عبده ومدرسته في تصور الحل المناسب للمشكلة، إلى عجز العقل المسلم في تلك المرحلة عن التركيب بين جزئيات المشكلة التي تصادفه، فهو يرى أن مشروع الأفغاني ومشروع محمد عبده كان سيكتب لهما النجاح لو استطاعت الحركة الإصلاحية التركيب بين الطرحين، والتوحيـد بين الآراء السياسيـة والاجتمـاعية التي نادى بها الأول، وبين الأفكار والأصول التي ذهب إليها الثاني ... بيد أن المشروعين سارا في خطين متوازيين، وهذا مؤشر على عمق الخلل الذي [ ص: 139 ] أصاب ثقافة المجتمع الإسلامي في مرحلة ما بعد الموحدين، تلك الثقافة التي شكلت - ولا تزال - عقبة أمام مشاريع الإصلاح والنهضة، ولا سبيل للتخلص من آثارها السلبية إلا بتشخيصها وبيان خصائصها، وهذا ما حدا ببن نبي أن يجعل من حديثه على مشروع محمد عبده مناسبة لنقد الثقافة السائدة في مجتمع مابعد الموحدين.

        - ثقافة ما بعد الموحدين: عقبات على طريق النهوض:

        أشرنا من قبل إلى أن أهمية نقد بن نبي لعبده، تكمن بشكل كبير في كونه تطرق من خلاله إلى نقد ثقافة ما بعد الموحدين وبيان خصائصها التي لا تزال متحكمة فينا إلى اليوم.

        وهذا ما يدعونا للتفكير بعمق، ونحن نواجه ظاهرة العولمة، في التخلص من معوقاتنا الثقافية، سواء وافقنا الداعين إلى الانخراط في العولمة، أو شايعنا المناهضين لها؛ لأننا سنقدم على عالم جديد، يجعل من الثقافة محددا أساسيا للعلاقات بين الأمم والشعوب والحضارات... يقول صاحب أطروحة صدام الحضارات: "في هذا العالم الجديد، فإن أكثر الصراعات انتشارا وخطورة لن تكون بين طبقات اجتماعية غنية وفقيرة، أو جماعات أخرى محددة على أسس اقتصادية، ولكن بين شعوب تنتمي إلى هويات ثقافية مختلفة" [4] . [ ص: 140 ]

        والمسألة الثقافية، عموما، تحتل حيزا كبيرا في تفكير بن نبي، وتشكل هما من الهموم البارزة التي شغلته وهو يحاول أن يحلل مشكلة الحضارة الإسلامية، ويفكك حالة الجمود التي أصابتها.

        يقول مبينا دور الثقافة في صناعة الحضارة: "لا يمكن أن نتصور تاريخا بلا ثقافة، فالشعب الذي فقد ثقافته فقد تاريخه.

        والثقافة بما تتضمنه من فكرة دينية، نظمت الملحمة الإنسانية في جميع أدوارها، من لدن آدم، لا يسوغ أن تعد علما يتعلمه الإنسان، بل هي محيط يحيط به، وإطار يتحرك داخله، يغذي الحضارة في أحشائه، فهي الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، وتتشكل فيه كل جزئية من جزئياته، تبعا للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بما في ذلك الحداد والفنان والراعي والعالم والإمام، وهكذا يتركب التاريخ.

        فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها، بما تتضمنه من عادات متجانسة وعبقريات متقاربة وتقاليد متكاملة وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون وروحانية الغزالي، أو عقلية ديكارت وروحانية جان دارك.. هذا هو معنى الثقافة في التاريخ [5] ".

        فإذا أضفنا إلى هذا أنه ينظر إلى الثقافة "باعتبارها مصدرا لوجوه السلوك" [6] ، وأنها "لا تستورد بنقلها من مكان إلى آخر، بل يجب خلقها في [ ص: 141 ] المكان نفسه" [7] ، وأن تحقيق شروط التطور في البلدان المتخلفة بإدراك أهمية البعد الثقافي، فلا تطور حقيقيا ما لم يسبق بقناعة حقيقية بأولوية تثقيف الإنسان [8] ... إذا أضفنا هذا كله إلى ما سبق بيانه، أدركنا خطورة الجانب الثقافي في مشروع بن نبي، وهي مسألة يمكن أن ندلل عليها من خلال إيراد عشرات النصوص التي نصادفها في مؤلفاته والتي حلل انطلاقا منها وفي سياقات مختلفة مشكلة الثقافة، ومكوناتها وعلاقاتها بالفرد والمجتمع والحضارة [9] .

        وما يهمنا في هذا المقام هو حديث بن نبي عن الثقافة في سياق التفاعل بين الثقافات أو الحضارات، إذ العولمة لا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها عن خلفيتها الثقافية، سواء كنا مع المنادين بقبولها، أم مع الداعين إلى نبذها... فأي تفاعل اجتماعي يحمل في طياته تفاعلا ثقافيا، وهذه حقيقة نبه إليها بن نبي في محاضرة ألقاها سنة1964م حين قال: "...أن نأخذ بعين الاعتبار واقعا جديدا يتمثل في معرفة أن كل قيمة ثقافية محددة في إطار وطني، قد أصبحت تمتزج من هنا فصاعدا في تيار ثقافة عالمية شاملة" [10] .

        فهو على هذا عندما يشرح ثقافة ما بعد الموحدين، يقدم أمام المسلمين المتطلعين إلى استئناف دورتهم الحضارية، تلك الاختلالات التي يجب أن [ ص: 142 ] يتخلصوا منها كي يتمكنوا من مواجهة أسباب تخلفهم، وفي المقام الأخطر كي يستطيعوا أن يواجهوا ثقافة (الآخر).

        فالمسـألة عند بن نبي واضحـة، لا يمكن استـرجاع (فعالية) الفرد إلا بإعادة إنتاج قيم ثقافية تزوده بهذه الفعالية، وقيم الثقافة ليست هي المعارف التي يتلقاها التلميذ في مدرسته أو الطالب في جامعته، وإنما هي طريقة الحياة، هي السلوك الذي يسلكه الفرد ويكون مثمرا ومنتجا اجتماعيا.. ومن هنا لا تكون المدرسة هي مصدر الثقافة، وإنما مصدرها الحقيقي هي (البيئة) أو (الوسط الاجتماعي)... وهذا ما يوضح لنا أيضا احتفاء بن نبي بإدراك محمد عبده لأصل المشكلة الإسلامية باعتبارها مشكلة اجتماعية، كما يكشف في الوقت ذاته سبب تخطئته له، حين ظن بأن الحل يكمن في علم الكلام (أي بالجانب المعرفي)، لا بإصلاح الوسط الاجتماعي بما يجعله وسطا منتجا لقيم ثقافية تعيد للفرد فعاليته.

        فالثقافة التي سادت مجتمع ما بعد الموحدين، تجردت تماما عن الفعالية، وبرزت فيـها -بحسب بن نبي - السلبيات أو النـزعات التالية:

        - نزعة المديح:

        وذلك بالتعلق بالماضي تعلقا مرضيا، لا يرى في (الذات) سوى الإيجابيات التي حققها الأسلاف، ولا يكاد ينتبه إلى سلبيات الحاضر ولا إلى عوامل إخفاقات المستقبل، وهذا أمر لا يساعد على التقدم وإنما يجر كل حركة إلى الوراء حيث التخلف والانحطاط، يقول بن نبي: "وهناك سبب [ ص: 143 ] آخر لانعدام الفعالية التي وصمت بها نزعة المديح للعمل الفكري، فحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي، أصبحت ثقافة أثرية، لا يتجه العمل الفكري فيها إلى الأمام، بل ينتكس إلى وراء" (ص60).

        ولا شك أن نزعة المديح مما يلجأ إليه المنهزمون أمام مشكلات الواقع، لتبرير عجزهم وتعزية أنفسهم والتنصل من مسؤولياتهم... وهي ردة فعل نفسية نصادفها لدى الأفراد كما نلمسها لدى المجتمعات، وهو ما يوضحه بن نبي بقوله: "وكان هذا الاتجاه الناكص المسرف، سببا في انطباع التعليم بطابع دارس لا يتفق ومقتضيات الحاضر والمستقبل، وبذلك أصيبت الأفكار بظاهرة التشبث بالماضي، كأنما أصبحت متنفسا له" (ص60).

        - نزعة التسامي:

        أو بحسب تعبير بن نبي (عقدة التسامي)، وهي أيضا من الأمراض التي برزت في ثقافة ما بعد الموحدين، لتبرير الهزيمة أمام مشكلات الواقع وغلبة (الآخر)... وهذه النزعة من شأنها أن تجعل صاحبها يتخذ موقف الرفض لثقافة (الآخر) والتترس بما أنتجه الأسلاف لمقاومة ضغوطات الحاضر والمستقبل، يقول بن نبي - في سياق تحليله لثقافة ما بعد الموحدين -: "وينبغي أن نضيف إلى الأسباب التي أحصيناها، ما أطلق عليه (جب) عقدة (التسامي)، حتى نفسر تفسيرا كاملا أسباب انحراف الحركة الإصلاحية، وجدت هذه العقدة في الثقافة الأوروبية على عهد (توماس الأكويني)، فاتخذت صورة تنحية كل ما من شأنه أن يدل على وجود تأثير إسلامي، [ ص: 144 ] واليوم تحدث الظاهرة نفسها في الثقافة الإسلامية التقليدية، في صورة مقاومة لضغط الأفكار الغربية، فعمل الشيخ محمد عبده في ميدان العقيدة كان في أقصى (نزعة المديح) اقتضاها هذا (التسامي)" (ص55).

        ويبدو من هذه الملاحظة أن نزعتي (المديح والتسامي) تشكلان في كل ثقافة تسعى للانبعاث من جديد، آلية دفاعية للبحث عن تميز (الذات) عن (الدخيل)... فهل هذا ما يفسر بعض ردود الأفعال التي نجدها لدى التيارات الإسلامية من (الآخر) وثقافته؟

        - النـزعة الشعرية والتعلق بالكم:

        وهمـا نزعتان تؤثران بشكل كبير، لا على عامة المسلمين فحسب، وإنما على نخبهم أيضـا، حتى على أولئك الذين تثقفوا ثقافة غربية، يقول بن نبي: "يجب أن نضيف نقيصتين هما: التعلق الواهم (بالكم)، ونلحظه حتى عند الذين احتكوا بالثقافة الغربية، والنـزوع إلى (الشعر)، وقد انفردت به شبيبة جامعة الزيتونة، تلك التي ارتضعت لبان الثقافة القديمة.

        ومن شأن النـزعة (الكمية)، أن تعود المرء النظر إلى فاعلية الشيء وإلى قيمته من خلال الكمية أو العدد، فتجده يقوم كتابا ما بعدد صفحاته المكتوبة، أما النـزعة (الشعرية) فتقصد إلى الناحية الجمالية وإلى (البديع)، الذي تتصف به حرفة الثقافة ونزعة المديح، وتلك وسيلة رشيقة مناسبة تخفي مواضع النقص والاختلال، فتجمل الأخطاء وتستر العجز بستار البلاغة المزعومة" (ص60). [ ص: 145 ]

        تلكم هي السلبيات/النـزعات التي حالت دون نجاح الجهود الإصلاحية التي باشرها الشيخ محمد عبده، وكأننا بالأستاذ، وهو يحلل ويشرح واقع ثقافة ما بعد الموحدين، يريد من المصلحين أن ينتبهوا إلى الوسط الثقافي الذي يتحركون فيه، فإن الفكرة لا يمكن أن تنفصل عن وسطها، وأصالتها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشفع لها وتحقق لها النجاح، ما لم تتوفر مقومات الفعالية من خلال وسط يمكنها من ذلك... فرب فكرة أصيلة كان مآلها الفشل؛ لأنها لم تكن فعالة، ورب فكرة خاطئة كتب لها النجاح لأنها تحركت في بيئة فعالة [11] .

        والثقافة الفاعلة هي التي تفي بالشروط (المبادئ) المشكلة لها، وهي مبادئ/شروط أسهب بن نبي في شرحها وبيانها عندما تناول مشكلة الثقافة بالتحليل والتفكيك، فخلص إلى أن أية ثقافة تحتاج إلى أربعة مبادئ هي:

        1- المبدأ الأخلاقي: الذي يحدد الدوافع والغايات.

        2- الذوق الجمالي: الذي يشكل الصياغة.

        3- المنطق العملي: الذي يحول الفكرة إلى إنتاج يستفاد منه اجتماعيا.

        4- العـلم: الذي يزودنا بالوسـائل التي تمكننا من الاستفادة من عالم الأشياء [12] . [ ص: 146 ]

        فهو يرى أن الثقافة الفاعلة، القادرة على استيعاب حاجات الفرد والمجتمع وإنتاج الحضارة، هي مزيج من هذه العناصر الأربعة، وكل خلل في واحد منها سينعكس حتما على الحياة الاجتماعية.

        ونحن في هذا المقام لسنا بصدد تحديد نظرة بن نبي لمفهوم الثقافة، فهذا يحتاج منا إلى دراسة مستقلة، وإنما نحن بصدد التنويه بالملاحظات المهمة التي ذكرها في معرض نقده للثقافة السائدة في مجتمع ما بعد الموحدين، وكيف أنها كانت عقبة أمام حركة الإصلاح، على الرغم من إدراك رجال تلك الحركة لأصل المشكلة.

        وهـذه الملاحظات لا تكمن أهميتـها في طبيعة السلبيات التي ذكرها بن نبي عن الثقافة الإسلامية في تلك المرحلة التاريخية فقط، فإن هذه السلبيات عرضة للتبدل والتغير، وقد تكون لاتزال بعينها مهيمنة على ثقافتنا، ولكن الأهم من ذلك هو الإشـكال الذي انطلق منه الرجل في عملية نقده للثقـافة، وهو: ما السبب الذي جعل جهود المصـلحين تبوء بالفشـل، وهل بإمـكان إنسـان ما بعد الموحـدين مواجهة الاستعمار إذا لم يتخلص من معوقاته الثقافية؟

        وهو الإشكال الذي يجب أن يستوقفنا ونحن نواجه (العولمة)، كي نطرح السؤال ثانية بما يتناسب مع لحظتنا التاريخية الراهنة: هل بإمكاننا أن نواجه (العولمة) ونحن لما نتخلص بعد من معوقاتنا الثقافية؟ [ ص: 147 ]

        وهذا السؤال يجب أن يسبق منهجيا، بسؤال حول واقع الثقافة العربية والإسلامية اليوم، والبحث في تضاعيف خطابنا الثقافي بمختلف تجلياته، كي نكشف عن سر الإخفاقات المتتالية التي منينا بها منذ عصر النهضة.

        وهذه عملية لا تدخل ضمن الترف الفكري، ما دامت المظاهر الاقتصادية والعسكرية والسياسية للعولمة، لا تشكل إلا البنية الفوقية لثقافة تنزع نحو الهيمنة وتفكيك الثقافات المحلية، باسم شعارات وقيم تسوق على أنها مشتركات إنسانية... فالثقافة مع العولمة دخلت منطق (الثقافة المسيطرة)، وعن هذا المنطق يقول الدكتور برهان غليون: "ليست العولمة هي المنشئة لسيطرة ثقافة على ثقافة أخرى، ولكنها منشئة لنمط جديد من السيطرة الثقافية، وليس للثقافات الأخرى أي مستقبل بالفعل إلا إذا أدرك أصحابها طبيعة هذا النمط الجديد من السيطرة الثقافية وآلياته، وبلوروا الاستراتيجيات المناسبة التي تسمح لثقافتهم أن تبقى على مستوى المشاركة العالمية الإبداعية، وأن لا تتحول إلى مجرد ثقافات هوية، أو معبرة على الاستمرارية والديمومة التاريخية لمجموعة بشرية، وهذا يفترض التعمق في فهم آليات هذه السيطرة الثقافية وتجديد أساليب طرح مشكلات تحول الثقافات والمهام المطروحة على أصحابها للنجاح في هذا التحول والارتفاع بثقافتهم إلى مستوى متطلبات العصر" [13] . [ ص: 148 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية