الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 206 ] ( حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ) بسكون الميم نسبة إلى قبيلة باليمن ، أخرج حديثه الأربعة ( حدثنا يحيى بن محمد المديني ) نسبة إلى مدينة السلام على الأصح ، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجه ، وفي نسخة صحيحة : المدني ( عن عبد العزيز بن محمد ) أخرج حديثه الستة ( عن عبد الله بن عمر ) نسبة إلى الجد ، إذ هو عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخو سالم ، مات قبل أخيه سالم ، كذا في الكاشف ( عن نافع عن ابن عمر ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم ) بتشديد الميم أي لف عمامته على رأسه ( سدل عمامته ) أي أرخى طرفها الذي يسمى العلاقة ، قال في المغرب : سدل الثوب سدلا من باب طلب إذا أرسله من غير أن يضم جانبيه ، وقيل : فهو أن يلقيه على رأسه ويرخيه على منكبيه ، وأسدل خطأ ( بين كتفيه ) بالتثنية وفي رواية أرسلها بين يديه ، ومن خلفه ، والأفضل هو الأول ، فقد أورد ابن الجوزي في الوفاء من طريق أبي معشر عن خالد الحذاء ، قال : أخبرني أبو عبد السلام ، قال : قلت لابن عمر : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتم ، قال : يدير كور العمامة على رأسه ويغرسها من ورائه ، ويرخي لها ذؤابة بين كتفيه ( قال نافع : وكان ابن عمر يفعل ذلك ) كان هذا من كلام ابنه وقوله : ( قال عبيد الله ) من كلام عبد العزيز ونبه عليه بترك العطف لاختلاف الروايتين ، ولو كان كلام أبي عيسى لكان منقطعا ( ورأيت القاسم بن محمد وسالما يفعلان ذلك ) أي ما ذكر من إسدال [ ص: 207 ] طرف العمامة بين الكتفين ، عطف على قوله : قال نافع : لأن كليهما من كلام عبيد الله ، كذا حققه العصام ، والله أعلم بالمرام . قال ميرك : وقد ثبت في السير بروايات صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخي علاقته أحيانا بين كتفيه ، وأحيانا يلبس العمامة من غير علاقة ، وقد أخرج أبو داود والمصنف في الجامع بسندهما عن شيخ من أهل المدينة ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عوف يقول : عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي ، وروى ابن أبي شيبة عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم عممه بعمامة ، وسدل طرفيها على منكبيه ، وفي شرح السنة قال محمد بن قيس : رأيت ابن عمر معتما ، قد أرسلها بين يديه ، ومن خلفه ، فعلم مما تقدم أن الإتيان بكل واحد من تلك الأمور سنة ، قال ميرك : وروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس القلانس تحت العمائم ، ويلبس العمائم بغير القلانس ، قال الجوزي : قال بعض العلماء : السنة أن يلبس القلنسوة والعمائم ، فأما لبس القلنسوة وحدها ، فهو زي المشركين ، لما في حديث أبي داود والترمذي من حديث أبي ركانة ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ، وقال الشيخ الجزري في تصحيح المصابيح : قد تتبعت الكتب وتطلبت من السير والتواريخ لأقف على قدر عمامة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم أقف على شيء حتى أخبرني من أثق به أنه وقف على شيء من كلام النووي ، ذكر فيه أنه كان له صلى الله عليه وسلم عمامة قصيرة ، وعمامة طويلة ، وأن القصيرة كانت سبعة أذرع ، والطويلة كانت اثني عشر ذراعا انتهى .

وظاهر كلام المدخل أن عمامته كانت سبعة أذرع مطلقا من غير تقييد بالقصير والطويل ، والله أعلم . وقد كانت سيرته في ملبسه أتم ، ونفعه للناس أعم ، إذ تكبير العمامة يعرض الرأس للآفات ، كما هو مشاهد في الفقهاء المكية ، والقضاة الرومية ، وتصغيرها لا يقي من الحر والبرد ، فكان يجعلها وسطا بين ذلك ، قال صاحب المدخل : عليك أن تتسرول قاعدا وتتعمم قائما انتهى .

قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية : أنه ذكر شيئا بديعا ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة ، قال العراقي : لم نجد لذلك أصلا ، قال ابن حجر : بل هذا من قبيح رأيهما وضلالهما إذ هو مبني على ما ذهبا إليه ، وأطالا في الاستدلال له ، والحط على أهل السنة في نفيهم له ، وهو إثبات الجهة والجسمية لله تعالى ، ولهما في هذا المقام من القبائح ، وسوء الاعتقاد ما تصم عنه الآذان ويقضى عليه بالزور والبهتان ، قبحهما الله وقبح من قال بقولهما ، والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرؤن عن هذه الوصمة القبيحة كيف وهي كفر عند كثيرين أقول صانهما الله من هذه السمة الشنيعة ، والنسبة الفظيعة ، ومن طالع شرح منازل السائرين ، تبين له أنهما كانا من أكابر أهل السنة والجماعة ، ومن أولياء هذه الأمة ، ومما ذكره في الشرح المذكور قوله : على ما نصه ، وهذا الكلام منشيخ الإسلام يعني الشيخ عبد الله الأنصاري الحنبلي قدس الله سره الجلي ، تبين مرتبته من السنة [ ص: 208 ] ومقداره في العلم وأنه بريء مما رماه به أعداؤه الجهمية من التشبه والتمثيل على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك ، كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب ، والناصبة بأنهم روافض ، والمعتزلة بأنهم نوائب حشوية ، وذلك ميراث من أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في رميه ورمي أصحابه بأنهم صبأة ، قد ابتدعوا دينا محدثا ، وهذا ميراث لأهل الحديث والسنة من نبيهم بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة .

وقدس الله روح الشافعي حيث يقول : وقد نسب إلى الرفض : شعر :

إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

ورضي الله عن شيخنا أبي عبد الله بن تيمية حيث يقول : شعر :

إن كان نصبا حب صحب محمد فليشهد الثقلان أني ناصبي

وعفى الله عن الثالث حيث يقول : شعر :

فإن كان تجسيما ثبوت صفاته وتنزيهها عن كل تأويل مفتر

فإني بحمد الله ربي مجسم هلموا شهودا واملأوا كل محضر

ثم ذكر في الشرح المذكور ما يدل على براءته من التشنيع المسطور ، وهو أن حفظ حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها ، وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أفهام العامة ، ولا نعني بالعامة الجهال ، بل عامة الأمة ، كما قال مالك رحمه الله : وقد سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى كيف استوى فأطرق مالك حتى علاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواء معلوم ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وفرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة ، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر ، وهذا الجواب من مالك رحمه الله شاف عام في جميع مسائل الصفات ، من السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرحمة والضحك ، فمعانيها كلها معلومة ، وأما كيفياتها فغير معقولة ، إذ تعقل الكيف فرع العلم بكيفية الذات وكنهها ، فإذا كان ذلك غير معلوم ، فكيف تعقل لهم كيفية الصفات .

والعصمة النافعة من هذا الباب ، أن يصف الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ، ولا تمثيل ، بل يثبت له الأسماء والصفات ، وينفي عنه مشابهة المخلوقات ، فيكون إثباتك منزها عن التشبيه ، ونفيك منزها عن التعطيل ، فمن نفى حقيقة الاستواء ، فهو معطل ، ومن شبه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثل ، ومن قال : هو استواء ليس كمثله شيء ، فهو الموحد المنزه ، انتهى كلامه وتبين مرامه وظهر أن معتقده موافق لأهل الحق من السلف وجمهور الخلف ، فالطعن الشنيع والتقبيح الفظيع غير موجه عليه ، ولا متوجه إليه ، فإن كلامه بعينه مطابق لما قاله الإمام الأعظم ، والمجتهد الأقدم ، في فقهه الأكبر ما نصه : وله تعالى يد ووجه ونفس ، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس ، فهو له صفات بلا كيف ، ولا يقال أن يده قدرته ، أو نعمته ; لأن فيه إبطال الصفة ، وهو قول أهل القدر والاعتزال ، ولكن يده صفته بلا كيف . وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف ، انتهى .

فإذا انتفى عنه التجسيم فالمعنى البديع الذي ذكره في الحديث [ ص: 209 ] الكريم له وجه ظاهر ، وتوجيه باهر ، سواء رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام ، أو تجلى الله سبحانه وتعالى عليه بالتجلي الصوري المعروف ، عند أرباب الحال والمقام ، وهو أن يكون مذكرا بهيئته ومفكرا برؤيته الحاصلة من كمال تجليته ، والله أعلم بأحوال أنبيائه ، وأصفيائه الذين رباهم بحسن تربيته ، وجلى مرآة قلوبهم بحسن تجليته ، حتى شهدوا مقام الحضور والبقاء ، وتخلصوا عن صدأ الحظور والفناء ، رزقنا الله أشواقهم ، وأذاقنا أحوالهم وأخلاقهم ، وأماتنا على محبتهم ، وحشرنا في زمرتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية