الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس ح ) إشارة إلى تحويل السند ، وقد أكده بالواو العاطفة ، حيث قال : ( وحدثنا إسحاق بن موسى حدثنا معن ) بفتح فسكون ( حدثنا مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، قال : كان الناس ) وهو أعم من الصحابة ، كما لا يخفى ( إذا رأوا أول الثمر ) أي باكورة كل فاكهة ( جاءوا به ) أي بأول الثمر والباء للتعدية ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) إيثارا له بذلك على أنفسهم ، حبا له وتعظيما لجنابه ، وطلبا للبركة ، فيما جدد الله عليهم من نعمه ببركة وجوده ، وطلبا لمزيد استدرار إحسانه وكرمه وجوده ، ويرونه أولى الناس بما سيق إليهم من رزق ربهم ، وينبغي أن يكون خلفاؤه من الأولياء والعلماء كذلك ، ( فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ) أي مستقبلا للنعمة المجددة بالتضرع والمسألة ، والتوجه والإقبال التام إلى المنعم الحقيقي ، طلبا لمزيد الإنعام على وجه يعم الخاص والعام ، ( اللهم بارك لنا في ثمارنا ، وبارك لنا في مدينتنا ) أي عموما شاملا لأهلها وثمارها ، وسائر منافعها ( وبارك لنا في صاعنا ) أي خصوصا وكذا قوله : ( وفي مدنا ) والمراد به الطعام الذي يكال بالصيعان والأمداد ، فيكون لهم بالبركة في أقواتهم في عموم أوقاتهم ، إشارة إلى أنها الأصل في أمور معاشهم المعينة على أمور معادهم ، وإنما قدم الثمار لأن المقام كان مستدعيا له ، ثم ذكر الصاع والمد اهتماما لشأنهما ، والصاع مكيال يسع أربعة أمداد بالاتفاق ، واختلف في مقدار المد فقيل : هو رطل وثلث بالعراقي ، وهو قول الشافعي وفقهاء الحجاز ، وقيل : هو رطلان ، وهو قول أبي حنيفة وفقهاء العراق ، فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثا ، على القول الأول ، وثمانية أرطال على القول الثاني ، وأدلة كل واحد مذكورة في الكتب المبسوطة ، وثمرة الخلاف تظهر في نحو صدقة الفطر ، وقد ضيع أهل المدينة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده الذي كان في زمنه ، والله ولي دينه ، ثم ينبغي لكل آخذ باكورة أن يدعو بهذا الدعاء المبارك إلى ربها ، قال القاضي عياض : البركة تكون بمعنى النماء والزيادة ، وتكون بمعنى الثبات واللزوم ، ويحتمل أن تكون البركة المذكورة في الحديث دينية ، وهي ما يتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في الزكاة والكفارات ، فتكون بمعنى الثبات والبقاء لها ، كبقاء الحكم ببقاء الشريعة وثباتها ، ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير الكيل والقدر بها ، حتى يكفي منه في المدينة ما لا يكفي [ ص: 299 ] منه في غيرها ، أو يرجع البركة إلى التصرف بها في التجارات وأرباحها ، أو إلى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها ، أو ترجع إلى الزيادة فيما يكال بها لاتساع عيشهم وكثرته ، بعد ضيقه لما فتح الله عليهم ، ووسع من فضله لهم ، وملكهم من بلاد الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها ، حتى كثر الحمل إلى المدينة ، واتسع عيشهم وصارت هذه البركة في الكيل نفسه ، فزاد مدهم وصار هاشميا ، مثل مد النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو مرة ونصفا ، وفي هذا كله ظهور إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وقبوله ، واختار الإمام النووي من تلك التوجيهات البركة في نفس مكيل المدينة ، بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غير كما تقدم ، وقال القرطبي : إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ، ولا يستلزم دوامها في كل حين ، ولكل شخص ، وقال الطيبي : لعل الظاهر أن قوله : ولاتساع عيشهم ، إلخ . لأنه صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ) ولم يقل في وصفه خليلك أو حبيبك تواضعا لربه ، أو تأدبا مع جده ( وأنه دعاك لمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك ) أي به كما في نسخة ( لمكة ) ودعاء إبراهيم عليه السلام ، هو قوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون يعني وارزقهم من الثمرات ، بأن تجلب إليهم من البلاد الشاسعة ، لعلهم يشكرون النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واديات ليس لهم فيها نجم ، ولا شجر ولا ماء ، ولا جرم أن الله عز وجل أجاب دعوته وجعله كما أخبر عنه بقوله : أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ولعمري إن دعاء حبيب الله صلى الله عليه وسلم استجيب لها ، وضاعف خيرها ، بما جلب إليها في زمن الخلفاء الراشدين ، رضوان الله عليهم أجمعين ، من مشارق الأرض إلى مغاربها ، ككنوز كسرى وقيصر وخاقان مما لا يحصى ولا يحصر ، وفي آخر الأمر ، يأرز الدين إليها من أقاصي الأرض وشاسع البلاد ، كما تأرز الحية إلى جحرها على ما ورد به الخبر ، وهذا معنى قوله : ( ومثله معه ) والضميران لمثل ما دعاك ، ثم اعلم أن الخليل بمعنى الفاعل ، وهو مشتق من الخلة بضم الخاء ، وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب ، وتمكنت في خلاله ، وهذا صحيح بالنسبة إلى قلب إبراهيم عليه السلام من حب الله تعالى ، وهذا هو معنى قوله تعالى : إلا من أتى الله بقلب سليم أي سالم عن محبة ما سواه ، وقيل : هو مشتق من الخلة ، بالفتح وهي الحاجة سمي بذلك لانقطاعه إلى ربه ، وإظهار حاجته إليه واعتماده عليه وتسليمه لديه ، حتى قال حين إلقائه في النار لجبريل حيث : قال له : ألك حاجة ؟ أما إليك ، فلا ، قال : فاسأل ربك ، قال : كفى علمه بالحال عن السؤال بالمقال ، وإنما لم يذكر صلى الله عليه وسلم الخلة لنفسه ، مع أنه أيضا خليل الله على ما نص عليه صلى الله عليه وسلم ، في غير هذا الموضع بل هو أرفع من الخليل ، فإنه خص بمقام المحبوبية التي هي أرفع من مقام الخلة ; لأنه صلى الله عليه وسلم في مقام الدعاء اللائق به ، التواضع والانكسار ، لا التمدح والافتخار ، وأيضا راعى [ ص: 300 ] الأدب مع جده صلى الله عليه وسلم ، على أنه أشار إلى تميزه عنه بقوله : ومثله معه ( قال ) أي أبو هريرة ( ثم يدعو أصغر وليد ) أي : أي صغير ( يراه فيعطيه ذلك الثمر ) ، وفي نسخة : " وليد " بالتصغير إشارة إلى أن اختيار الأصغر فالأصغر لزيادة المبالغة ، لكن المعتمد هو الأول بدون " له " ، قال ميرك شاه كذا هو في رواية هذا الكتاب ، ومثله في رواية مسلم ، وفي رواية له فيعطيه أصغر من يحضر من الولدان ، وفي أخرى لمسلم أيضا : ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ، فحمل بعضهم الروايتين المطلقتين المتقدمتين على هذه الرواية المقيدة ، كما تقرر في الأصول من قاعدة حمل المطلق على المقيد ، ومنهم من أول الرواية المقيدة بأن قوله : أصغر وليد له ، يعني للمؤمنين ، وليس المراد من أهل بيته ، انتهى .

والأظهر أنه ما كان يعتني في أنه يعطيه لأصغر ولد من أهل بيته ، أو من غيرهم ، وإنما كان بحسب ما اتفق له من حضور أي صغير ظهر ، نعم . لو لم يكن هناك أحد من الصغار ، ربما يخص أحدا من صغار أهل بيته لقربهم وقرابتهم ، وأما مع وجود صغير آخر فلا يتصور إيثار أحد من أولاده ، على أولاد سائر أصحابه ، كما هو المعلوم من كريم أخلاقه ، وحسن آدابه ، ثم تخصيص الصغار بباكورة الثمار للمناسبة الواضحة بينهما ، من حدثان عهدهما بالإبداع ; ولأن الصغير أرغب فيه وأكثر تطلبا ، وأشد حرصا ، ولفتا مع ما في إيثاره على الغير من قمع الشره الموجب لتناوله ، وكسر الشهوة المقتضية لذوقه ، ومن أن النفوس الزكية لا تركن إلى تناول شيء من الباكورة إلا بعد أن يعم وجوده ، ويقدر كل أحد على أكله ، وفيه بيان حسن عشرته ، وكمال شفقته ومرحمته وملاطفته مع الكبير والصغير ، وتنزيل كل أحد في مقامه ومرتبته اللائقة به .

التالي السابق


الخدمات العلمية