الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

نظرات في مسيرة العمل الإسلامي

عمر عبيد حسنة

قراءة في ثلاثة أوراق تاريخية

( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) (يوسف: 111)

لا نريد بعرض هـذه الأوراق المأساوية من تاريخنا أن نقدم إضافات لصور المآسي والمعاناة التي نعيشها، وألوانا كئيبة من الإحباط واليأس التي تلحق بنا على أكثر من مستوى، والتي باتت تملأ علينا حياتنا، وترافق طعامنا وشرابنا ويقظتنا ومنامنا حيثما تلفتنا.. ليس هـذا هـو المقصود، ولو كان هـذا مقصودنا لاكتفينا بالصور المأساوية القائمة التي نعيشها صباح مساء، تحملها إلينا أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة عن فظائع يهود وأفاعيلهم في بيروت الغربية ، بل للمسلمين في بيروت، ولاكتفينا بمأساة الصمت العربي أيضا، الذي لم يخرج في حقيقته عن أن يكون جزءا من الصورة ومن بعض لوازمها أيضا، ولكان ذلك جديرا وحده بتحقيق الانكسار النفسي والقنوط الذي أريد لهذه الأمة، ليس هـذا هـو المقصود، وإنما المقصود حقيقة أن نقول: إن هـذه الأمة عانت في تاريخها الطويل من صور المآسي والنكبات ما تكفي الواحدة منها لإزالتها من الوجود، ومحوها من خارطة العالم، لكن الأمة المسلمةـ تاريخيا - تحقق لها من عوامل الصمود والاستمرار، وعدم [ ص: 173 ] الذوبان والاضمحلال في أيام الغلبة والانكسار قدرا لا يقل عن عوامل القوة في أيام الفتح والانتصار.

إن الذي يقرأ في هـذه الأوراق التاريخية التي نقدمها اليوم دون أن يتابع رحلة القراءة في التاريخ ليتعرف كيف استطاعت الأمة تجاوز محنتها في أكثر من مجال، سوف يحكم عليها بلا أدنى شك بأنها انتهت إلى غير رجعة، ذلك أن الاجتياح كان ساحقا لا يبقى ولا يذر، سواء في ذلك حملات الاستعمار القديم أم الاستعمـار الحديث، مستهدفا القضاء على الوجود الإسلامي مصادقا لقوله تعالى: ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.. ) (البقرة: 217)

على الرغم من ذلك كله استطاعت الأشلاء الباقية في كل مرة أن تلملم جراحها وتتعرف على مواطن الضعف في حياتها التي كانت منافذ للعدو، وتتلمس مواطن القوة لتنطلق منها مرة بعد مرة..

من هـنا نقول: إن هـذه الأوراق التاريخية ليست لمزيد من اليأس، وإنما معالجة لليأس والسقوط والقنوط، وليست القراءة التاريخية بدعا، وإنما هـي طريق الأمم الطبيعي عندما تمر بها أزمة، أو تجتاحها محنة، إنها ترجع إلى قيمها تستوحي منها القوة، وتتعرف منها على مواطن الضعف، وتعود إلى قراءة تاريخها مرة بعد أخرى، قال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) (يوسف: 111) .

وهذا ليس هـروبا من الواقع كما يتوهم بعضهم من ضحايا التضليل الثقافي، وليس استمرارا للعيش في مناخ الهزائم، وإنما هـو التفتيش عن الوسيلة الأفضل لمواجهة الواقع وتجاوزه، لأننا إذا قبلنا بمنظومة القيم القائمة والوسائل المستخدمة التي حملت لنا الويلات والدمار، معنى ذلك أننا ما نزال مصرين على السير في الطريق المسدود، وقبول الواقع الحالي الذي لا يخرج في حقيقته عن أن يكون نتيجة طبيعية للمقدمات التي صنعناها بأيدينا، الأمر الذي بات معروفا للقاصي والداني، ولا يتطلب مزيد جهد ونظر، إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن تنتصر الشعارات المرفوعة التي أريد لها أن تكون بديلة عن القيم الإسلامية في حياة الأمة المسلمة، والتي ترفعها الأيدي الملطخة بدماء المسلمين الضالعة في [ ص: 174 ] مخططات التسوية المرسومة مسبقا والمنفذة بدقة ومرحلية..

هذه الأيدي التي حاولت باستمرار سلخ الأمة عن عقيدتها، عدة كفاحها ودرع صمودها، والتي لا تخرج في حقيقتها عن أن تكون جنودا في جيش العدو..

فالتاريخ ذاكرة الشعوب، وهو المعلم والمرشد، فهل ما تزال لنا ذاكرة تحمل لنا البصارة أم مورست علينا، كجزء من المعركة، عمليات الإخلاء والإملاء كما يقولون، لنبقى عاجزين عن قراءة تاريخنا والاستفادة منه والاعتبار بحوادثه؟! نبقى كالشجرة المترنحة التي تتقاذفها الرياح يمنة ويسرة، لا جذور لها، وما لها من قرار.

ولا بد من الاعتراف ابتداء بأن موقفنا من تاريخنا إلى الآن لم يتجاوز الموقف العاطفي، أما الدرس والعبرة، وتلمس معالم الشخصية، والتعرف على مواطن الضعف لتجنبها وعوامل النصر والنهضة لالتزامها، فهذا أمر متروك لاستفادة عدونا، لأننا أمة تعيش خارج التاريخ، أو هـكذا أريد لها على الأقل.

والغريب أن تاريخنا الإسلامي يقرأ لنا بشتى القراءات - التي تبعدنا عنه، وتعطل الفائدة منه - عدا القراءة الإسلامية على الساحة الإسلامية.. يفسر تاريخنا تفسيرا ماديا، ويفسر تفسيرا عنصريا أو شعوبيا ، ويفسر تفسيرا علمانيا ، وقد يفسر تفسيرا باطنيا.. والذي تتاح له قراءة شيء من مناهج التعليم في المناطق الخاضعة للاحتلال اليهودي، يرى أن أطفال المسلمين اليوم ضحايا التفسير اليهودي التوراتي للتاريخ.

إن العدوان العسكري كان موازيا دائما للعدوان الفكري على قيم هـذه الأمة وتاريخها، ولا شك أن العدوان على التاريخ جاء أكبر بكثير..

نعود إلى هـذه الأوراق التاريخية التي نطلب إعادة قراءتها تحمل الكثير من التفسير لواقعنا الذي نعاني منه:

الورقة الأولى كانت عن مسير القرامطة إلى مكة، وما فعلوا سنة 317هـ كأنموذج للكيد الباطني المبكر، والجرثوم الذي وضعه اليهود في جسم هـذه الأمة، والذي كان ولا يزال يستيقظ كلما ضعف هـذا الجسم، يحاول القضاء عليه.. [ ص: 175 ]

والورقة الثانية: كانت عن الحملات الصليبية وأفاعيل الصليبيين عند احتلالهم بيت المقدس، والخدمات التي قدمت لهم على السواحل الإسلامية، وهم في الطريق إليها، حتى تمكنهم من رقاب المسلمين.. فهل يعاد التاريخ نفسه اليوم، ذلك أن اختلاف التسميات في كثير من الأحيان لا يغير شيئا من حقيقة المسمى..

أما الورقة الثالثة فكانت عن الغزو المغولي التتري المدمر - أو بعضا من أخباره - الذي جاء ليقضي على البقية الباقية من حراك الجسم الإسلامي والفكر الإسلامي، فماذا كانت النتيجة؟

التالي السابق


الخدمات العلمية