الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المبحث الرابع

            الاقتداء

            نزل القرآن الكريم مركزا على مبدأ الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وما ذلك إلا لأنه يجعل الفرد يسير على الهدي الإلهي، بعيدا عن الزيغ والهوى، من ذلك قوله تعالى: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) [الممتحنة:4].

            وقوله: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) [الأحزاب:21].

            وقوله: ( أولئك الذين هـدى الله فبهداهم اقتده ) [الأنعام:90].

            وقوله: ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله ) [الممتحنة:6]. [ ص: 119 ]

            ولهذا، وجدنا الصحابة يتبعون آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، اتباعا لا مثيل له، ولا يفعلون شيئا حتى يرونه يفعله. وما علينا إلا أن نتأمل هـذه الواقعة لنتبين ذلك؛ ( فعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص ، فحمله على سرجه، وردفه حتى قدم به مكة ، فقال: يا ابن عم أراك متخشعا! أسبل إزارك كما يسبل قومك! قال: هـكذا يأتزر صاحبنا إلى أنصاف ساقيه. قال: يا ابن عم، طف بالبيت. قال: إنا لا نصنع شيئا حتى يصنع صاحبنا ونتبع أثره ) [1]

            وأخرج مسلم ( عن سعيد بن يسار أنه قال: كنت أسير مع ابن عمر بطريق مكة. قال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت. ثم أدركته. فقال لي ابن عمر: أين كنت؟ فقلت له: خشيت الفجر فنزلت فأوترت. فقال عبد الله: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟ فقلت: بلى والله. قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير ) [2]

            واتباع الصحابة للرسول في أفعاله وحركاته وسكناته، واقتداءهم به، هـو في واقع الأمر اتباع السنة، وامتثال لقوله تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [الحشر: 7]، وهذا الاقتداء الذي جعل ابن عمر يتتبع آثار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كل مكان، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ، نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهدها، فيصب في أصلها الماء لكي لا تيبس [3] ، فيأتيها ليتسريح في ظلها كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم . [ ص: 120 ]

            وقد ترسخ مبدأ الاقتداء في نفسية الصحابة وغيرهم من الأئمة الذين تفتخر بهم الأمة الإسلامية، فكانوا يتخلقون بالأخلاق النبوية، ليقدموا النموذج الصالح لطلبتهم، حتى يسيروا سيرهم، ويقتدوا بهم، ويوصون بضرورة ذلك. فها نحن نرى الصحابي الجليل " عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، يقول: من كان منكم متأسيا، فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا أبر هـذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هـديا، وأحسنها حالا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم " [4]

            هذه إذن هـي الأسباب التي يجب من أجلها السير على هـدي الصحابة.

            ولننتقل إلى " قول مصعب بن سعد ، حين يقول: كان أبي إذا صلى في المسجد تجوز، وأتم الركوع والسجود، وإذا صلى في البيت أطال الركوع والسجود والصلاة. قلت: يا أبتاه. إذا صليت في المسجد تجوزت، وإذا صليت في البيت أطلت؟ قال: يا بني، إنا أئمة يقتدى بنا " [5]

            وهذا يصور الفهم العميق للسنة وللاقتداء، فقد انطلق سعد من فهمه لروح الشريعة الذي يرفع الحرج، وتصرف على وفقه، حتى يسير الناس على هـداه. فالاقتداء إذن اتباع لسلوك سام، لنموذج خضع لتربية مثالية. [ ص: 121 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية