الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى

            الأستاذ / المكي أقلانية

            المبحث السادس

            نتائج عدم الأخذ عن الشيوخ

            سنحاول هـنا ذكر بعض النتائج، التي تسنى لنا الوصول إليها، حول نتائج عدم الأخذ عن الشيوخ، وهي كالتالي:

            1- افتقاد عنصر الاقتداء، الذي أكد عليه كل من السلف والخلف، وبالتالي سنفتقد في الشخص الذي لم يأخذ عن أي عالم، أخلاق العلماء. ومن هـذا المنطلق، انتقد ابن حزم ، وقيل: إن ذلك هـو سبب سلاطة لسانه، حتى قيل: " كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج [ ص: 126 ] شقيقين " [1] وغالى البعض حتى قال: " إنه عار من الشيوخ " [2] ومنهم من ركز على عدم ملازمته للعلماء، كقول أبي إسحاق الشاطبي (790هـ) : أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم، وملازمته لهم، فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك. وحسبك من صحة هـذه القاعدة، أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه، إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف. وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري ، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم... " [3] [ ص: 127 ]

            2- ضيق الأفق، ذلك لأنه سوف يبقى في إطار ما درسه في الصحف، غافلا عما يمكن أن يرفع من مستواه العلمي، سواء تعلق الأمر بالفن الذي يدرسه ذاته، أو بأمور أخرى، تكون الثقافة العامة للطالب.

            3- التصحيف نتيجة الأخذ من الصحف، وهو إما تصحيف في الإسناد أو في المتن. فمن التصحيف الذي وقع في الإسناد، ما ذكره الحاكم قال: " أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن جعفر ، قال: حدثنا شعبة ، عن مالك بن عرفطة ، عن عبد خير ، عن عائشة ، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نهى عن الدباء والمزفت. ) قال أحمد بن حنبل رحمه الله، صحف شعبة فيه " إنما هـو خالد بن علقمة " . " قال أبو عبد الله: والدليل على صحة قول أحمد رحمه الله، أن زائدة بن قدامة وأبا عوانة وشريك بن عبد الله ، رووا عن خالد بن علقمة، عن عبد خير بنحوه " [4]

            ومن التصحيف الذي وقع في المتن، ما ذكره الحاكم، قال: " حدثنا أبو بكر بن إسحاق الإمام ، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن الوليد ، قال: حدثنا صفوان بن صالح ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم ، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هـريرة ، قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله تسعا وتسعين اسما ) [ ص: 128 ] الحديث. وذكر فيه الأسامي، وفيه: ( الحفيظ المقيت ) .

            " قال أبو عبد الله : وهكذا أخرجه أبو بكر بن خزيمة في المأثور: (المقيت) ، فحدثنا أبو زكريا العنبري ، قال: حدثنا أبو عبد الله البوشنجي قال: حدثنا موسى بن أيوب النصيبي ، قال: حدثنا الوليد بن مسلم ، ذكر الحديث بنحوه، وقال: ( ( الحفيظ المغيث ) ) ، ومن قال: (المقيت) ، فقد صحف " [5]

            وتجدر الإشارة إلى أن التصحيف لا يكون دائما بسبب الأخذ من الصحف، إذ قد يكون أيضا بسبب سوء السماع من الشيخ، فيكتب الطالب كلمة، يعتقد أن الشيخ نطق بها، بينما الواقع خلاف ذلك.

            وقد اهتم المحدثون بالإشارة إلى تصحيف المصحفين، وتصحيح الأخطاء التي وقعوا فيها، ولا يعتبرون ذلك من الغيبة، فعن أبي زرعة قال: " سمعت أبا مسهر يسأل عن الرجل، يغلط ويهم ويصحف، فقال: بين أمره. قلت لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة؟ قال: لا " [6]

            وذكر عبد الله بن سعيد العسكري ، قال: " وأخبرنا ابن عمار قال: انصرفت من مجلس عبد الله بن عمر بن أبان القرشي ، المحدث المعروف بمشكدانه، في سنة ست وثلاثين ومائتين، فمررت بمحمد بن عباد بن موسى ، فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من عند أبي عبد الرحمن مشكدانه، فقال: ذاك الذي يصحف على جبريل - يريد قراءته [ ص: 129 ] (ولا يعوق وبشرا) [7] - وكانت قد حكيت عنه " [8]

            إذا تبين هـذا فما هـو الموقف المتخذ من طرف المحدثين تجاه من لا يأخذ علمه من الشيوخ، وإنما يأخذه من الصحف.

            في هـذا الصدد نجد شعبة بن الحجاج يقول: " قال لي أيوب : لا تروي عن خلاس، فإنه صحفي " [9] وقال أبو زرعة : " لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مصحفي " [10]

            وكان ثور بن يزيد يقول: " لا يفتي الناس الصحفيون " [11]

            وقد نتساءل عن هـذا التشدد، لكننا إذا علمنا أن القوم كانوا يعولون بالأساس على الرحلة، ومعرفة الشيوخ، ومعاشرتهم لمعرفة دقائق رواياتهم، وإذا علمنا أن الكتب لم يكن لها هـذا الشيوع الذي وقع فيما بعد، فهمنا هـذا، بل وسلمنا لهم بذلك. أما عندما شاعت الكتب في الأمصار، فإن الأمر تغير، وهذا ما يوضحه الحديثان التاليان:

            عن يحيى قال: " كانوا يضعفون ما يوجد في الصحف " [12]

            وعن سلمان بن موسى قال: " كان يقال: لا تأخذوا القرآن عن مصحفي، ولا العلم عن صحفي " [13] [ ص: 130 ]

            فتصريحهما بـ " كانوا... " و " وكان يقال " يدل على أنه في عصرهما تغيرت الحال، وأنه لم يعد يضعف من يأخذ من الصحف ما يجد فيها. وهذا فيما إذا تيقن الذي وجد الكتاب أو الصحيفة أنها بخط صحابها، واليوم كثير من المخطوطات التي تحقق، إنما هـي عن طريق الوجادة [14]

            . ولو لم نعمل بها لضاعت كنوز ومؤلفات، وفي ذلك يقول ابن الصلاح : " قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه - (أي أصحاب الشافعي) - بوجوب العمل به، عند حصول الثقة به، وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأبوه. وما قطع به هـو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية، لانسد باب العمل بالمنقول لتعذر شروط الرواية فيها " [15]

            وعبد الله بن أحمد بن حنبل (ت290هـ) ، يعتبر من الذين استفادوا من الوجادة، حيث أنه نقل ما وجد بخط أبيه من الحديث في المسند، فيقول: " وجدت أبي " . ومما لا شك فيه أنه يعرف خط أبيه معرفة جيدة، لذلك فهو متيقن من صحة ما ينسبه لأبيه.

            وبعد هـذا وذاك، فإن الأخذ عن الشيوخ يبقى هـو الأساس في تلقي العلم، والأخذ من الصحف، يأتي بعد ذلك، حتى يكون الطالب قد تمرس بعلم الحديث ليقل تصحيفه، وتتسع مداركه.

            فإذا تبين لنا هـذا، فإنه يجدر بنا دراسة الخصائص التي يتميز بها التعليم عند المحدثين، تتويجا لهذا البحث. [ ص: 131 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية