الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المبحث الثاني

            المساواة

            هل كانت المساواة متحققة في التعليم عند المحدثين؟ أم أنهم كانوا يميزون بين ذوي الجاه والمعدمين؟ وبين الرجل والمرأة والصبي؟ لنتأمل النصوص والوقائع لنخرج بنتيجة حول الموضوع.

            هذا ابن شهاب الزهري ، لم يكن يرى إملاء الأحاديث على الطلبة، بل يكتفي بالتحديث، وبعدما أملى على أبناء الأمير لإلحاح عليه، رأى من وجه الإنصاف الإملاء على الناس كافة، كما أملى على هـؤلاء الأبناء. وفي ذلك تسوية بين الطرفين. فخرج إليهم وقال: " كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هـؤلاء الأمراء، فرأينا ألا نمنعه أحدا من المسلمين " [1]

            وهذا أحد السلاطين يرسل إلى البخاري طالبا منه أن يأتيه حتى يسمع أولاده منه، فيجيبه قائلا: " في بيته العلم، والعلم يؤتى " . يعني: إن كنتم تريدون ذلك، فهلموا إلي، وأبى أن يذهب إليهم [2]

            وهذا الأمير الموفق يأتي أبا داود ، فيسأله عن سر مجيئه فيجيبه قائلا: " خلال ثلاث " . فيسأله عنها، فيجيبه بقوله: " تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا، ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض، فتعمر بك، فإنها قد خرجت وانقطع عنها الناس، لما جرى عليها من محنة الزنج " . [ ص: 138 ]

            فيقول له: " هذه واحدة، هـات الثانية " . فيقول: " وتروي لأولادي كتاب السنن " . فيقول: " نعم، هـات الثالثة " . فيقول الموفق: " وتفرد لهم مجلسا للرواية، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة " . فيرد عليه أبو داود : " أما هـذه فلا سبيل إليها؛ لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء " . قال أبو بكر بن جابر - راوي الواقعة-: " فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون، ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة " [3]

            من خلال النصوص السابقة، يظهر أن من المحدثين من كان يفرد لأبناء الأمراء، مجلسا للرواية، وكانوا قلة، أما جمهور المحدثين، فلم يكونوا راضين بذلك، فمن أراد السماع، فليحضر مع الناس. والسبب في ذلك هـو أنهم يخشون على المحدث أن يتزلف للسلطان، فيساير هـواه، ولا ينهاه عن البدع، لما سيسبغ عليه من العطايا. لكننا إذا رجعنا إلى أمثال ابن شهاب الزهري ، فإننا سنجده مثال الصلابة في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، فنراه يواجه الأمير عندما يحيد عن الصواب والجادة، ثم إنه لم يكن يؤثر أبناء الأمير بالحديث، دون بقية الناس، بل نراه ينشره في جميع الأوساط.

            وهكذا نخرج بالنتيجة التالية: ألا وهي المساواة بين الحاكم والمحكوم في العلم. فكيف هـو الحال بالنسبة للصبيان؟

            إذا ما عدنا إلى النصوص وجدنا المحدثين يحثون على تعليم الصبيان إن كرها، وإن ترغيبا في النقود أو الحلوى. " فعبد الله بن عمر كان يكبل رجلي مولاه عكرمة ويعلمه القرآن والسنة " [4] ، [ ص: 139 ]

            وعبد الله بن داود يقول: " ينبغي للرجل أن يكره ولده على سماع الحديث " [5]

            وهذا فيما إذا كان يتشاغل عنه. ومن جانب آخر، نجد إبراهيم بن أدهم يقول: " قال لي أبي: يا بني، اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثا وحفظته، فلك درهم، فطلبت الحديث على هـذا " . [6]

            كما يكون تشجيع الصبيان على التعلم بالاهتمام بهندامهم، كما كانت تفعل والدة الإمام مالك ، واختيار أفضل الشيوخ، فعن مطرف قال: " سمعت مالكا بن أنس يقول: قلت لأمي: أذهب فاكتب العلم؟ فقالت لي أمي: تعال، فالبس ثياب العلماء، ثم اذهب فاكتب. قال: فأخذتني فألبستني ثيابا مشمرة، وضعت الطويلة على رأسي، وعممتني فوقها، ثم قالت: اذهب الآن فاكتب " [7]

            إلى جانب هـذا التشجيع، نجد المساواة والعدالة، حتى بين الصبيان في المكتب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هـذه الأمة، فلم يعلمهم بالسوية، فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم، حشر يوم القيامة مع الخائنين ) [8]

            والمسلمون يأتمرون بما يأمرهم به عليه السلام . [ ص: 140 ]

            وقد أعطت التربية المحمدية أكلها، فنرى عمر بن الخطاب ، وهو يصحب معه ابن عباس إلى دار الندوة ، ليحضر اجتماعات الصحابة، في حين أنه ما يزال في سن الصبا [9]

            ونرى " عمرو بن العاص ، يقف على حلقة من قريش ، ويقول: ما لكم قد طرحتم هـذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا، وأوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه، فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم، فأنتم اليوم كبار قوم " [10]

            ونفس النداء نجده عند الحسن البصري يوجهه لأصحابه: " قدموا إلينا أحداثكم فإنهم أفرغ قلوبا، وأحفظ لما سمعوا، فمن أرد الله عز وجل أن يتم ذلك له، أتمه " [11]

            هكذا يظهر اهتمام المحدثين بالصبيان، وقد يستغرب البعض، إذا ما قلنا: إن لهم شأنا كبيرا في الإسلام، ظهر أثره في العهود الأولى، حتى أنهم كانوا يستشارون. فابن يوسف بن الماجشون يروي عن ابن شهاب الزهري حدثه هـو وابن عم له، وشخص آخر كان معهم: " لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الله، كان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث، فاستشارهم لحدة عقولهم " [12] [ ص: 141 ]

            وعن ابن عيينة قال: " كنت أختلف إلى الزهري ، وأنا حديث السن، ولي ذؤابتان، فأملى بعضهم: عن أبي سلمة ، وقال بعضهم: عن سعيد ؛ وابن شهاب يسمع. فقال: ما تقول أنت يا صبي؟ فقلت: عن كلاهما. فضممت الكاف. فجعل يعجب من ضبطي ويضحك من لحني " [13]

            فانظر كيف أن الطفل تحترم شخصيته، ويطلب منه رأيه. وأي شعب يطبق فيه هـذا النوع من التكوين، لا يصل إلى قمة الازدهار؟

            إذا كانت شخصية الطفل تحظى بكل هـذه العناية، فكيف كانت وضعية المرأة؟ هـل كانت يعتني بها في الجانب التعليمي؟ أم أنها كانت تترك لأشغال المنزل فقط؟

            ( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله. قال: اجتمعن يوم كذا وكذا. فاجتمعن فأتاهن النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله، ثم قال: ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار فقالت امرأة: واثنين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : واثنين ) [14]

            ويوجد كثير من النصوص تبين لنا أن الصحابيات، وهن يسألنه ويتعلمن منه، وكن خير مبلغ، ومنهن من كن يفتين بعده، [ ص: 142 ] " فعن محمود بن لبيد قال: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يحفظن من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، كثيرا، ولا مثلا لعائشة وأم سلمة . وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت يرحمها الله. وكان الأكابر من أصحاب رسول الله، عمر وعثمان بعده، يرسلان إليها فيسألانها عن السنن " [15]

            وهذه نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي ، راوية محدثة، من خيرة المحدثات في عصرها، وكان يجلس في حلقتها مشاهير العلماء والمجتهدين، ولما دخل الإمام الشافعي مصر ، حضر إليها، وسمع منها الحديث.

            وكذا عتيدة ، جدة أبي الخير التيناني الأقطع، كانت تدرس وأمامها خمسمائة تلميذ من الرجال والنساء [16]

            وكان الإمام مالك يقرأ عليه الموطأ، فإن لحن القارئ في حرف، أو زاد، أو نقص، تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع، فالغلط معك. فيرجع القارئ، فيجد الغلط.

            ويدخل أحد طلبة سعيد بن المسيب بابنته، فلما يصبح، يأخذ رداء يريد الخروج، فتساله زوجته عن مقصده، فيخبرها أنه يريد مجلس سعيد لأخذ العلم، تقول له: اجلس أعلمك علم سعيد.

            وكان أشهب بالمدينة، فاشترى حضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية، حين يأتينا الخبز، فأتينا نعطك الثمن. فقالت: ذلك لا يجوز. فقال لها: ولم؟ فقالت: لأنه [ ص: 143 ] بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية، فقيل له: أنها جارية مالك بن أنس رحمه الله [17]

            من خلال هـذه النصوص، يظهر لنا أن المرأة لم تكن مقصورة على الأعمال المنزلية، بل كانت تتعاطى العلم والتعليم منذ العهود الأولى، وتصدرت مجالس التحديث والإملاء.

            نختم هـذا العنصر بتقريرنا أن المساواة كانت متحققة عند المحدثين في التعليم في جميع المستويات، وذلك تطبيقا لما وصى الله تعالى ورسوله به.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية