الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى

            الأستاذ / المكي أقلانية

            المبحث الخامس

            نتائج الإشراف التربوي والتعليمي

            في المباحث السابقة، تبين لنا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كان تحت العناية الإلهية، توجهه وتحفظه من الزيغ، وكيف أنه بدوره، اعتنى بتكوين أصحابه، تكوينا سليما، حتى أصبحوا أساتذة الجيل التالي، وهكذا الأمر بالنسبة لهم.

            وإن المتأمل في النصوص المتفرقة هـنا وهناك، يستطيع أن يخرج بالنتائج التالية:

            1- تكوين الطالب تكوينا سليما في الفن الذي يدرسه. ذلك أن الشيخ يكون عادة ملما به، محيطا بدقائقه، خبيرا بالرجال. فهو عندما يروي لطلبته حديثا يذكر سنده، ويبين عدالة وضبط كل راو من الرواة، ودرجة الحديث، من حيث الصحة أو الضعف، ويدرس المتن، فيبين غامضه، ويستنبط فقهه، وإذا كان ناسخا أو منسوخا نبه على ذلك.

            كما يبين لطلبته الرموز المستعملة في السند أمثال: ثنا - وهو اختصار لحدثنا – وأنا، ونا – اختصار لأنبأنا أو أخبرنا و: ح: تقرأ: حاء، وهي حاء التحويل، تفيد عودة السند إلى الراوي، كما في المثال التالي: قال الراوي: ثنا محمد، أنا سعيد، عن علي، ح ثنا إدريس، أن أحمد قال:

            أنا خالد:

            [ ص: 122 ] 2- تكوين عقلية ونفسية متفتحة. وقد سبق أن علمنا أن الشيخ في حلقته، يعمل على تلوين الموضوع بذكر أيام العرب والنوادر، وغيرها لرفع الملل، وهذا يساعد على بلورة حصيلة الطالب وتوسيع أفقه.

            وبين وقت وآخر، نرى الشيخ وهو يوجه أسئلة إلى طلبته، ويترك لهم المجال لإبداء الرأي، دون أن يعنتهم أو يقمعهم، فكانت نفسيتهم. وبالتالي متفتحة غير عدوانية، تقبل الحوار وترحب بمن يصحح معلوماتها، بل وتطلب العلم ممن هـو أعلم منها، دون أنفة أو كبر، ومن شأن ذلك أن يخلق شخصية لها وزنها العلمي.

            ومن حسن الحوار ما يضربه لنا الرسول عليه السلام ، عندما جاءه فتى من قريش - كما ( يروي أبو أمامة - وقال له: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مه مه، فقال: ادن، فدنا منه قريبا فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أتحبه لعمتك؟ قال: لا والله يا رسول جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. قال: فلم يكن الفتى بعد [ ص: 123 ] ذلك يلتفت إلى شيء ) [1]

            وهذا ( معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه يقول: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم! فلما رأيتهم يصمتونني سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هـو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: إن هـذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هـي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن... ) [2]

            ويخطئ ابن عمر حين يروي ( عن النبي صلى الله عليه وسلم : الشهر تسع وعشرون ) فعندما ذكر ذلك لعائشة رضي الله عنها ، هـل انتقصت من قيمته؟ هـل جرحته بكلمة نابية؟ لا. لقد ( قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال: الشهر يكون تسعا وعشرين ) [3]

            ويختلف سمره وعمران ، وفي ذلك " يروي الحسن عن سمرة قال: سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك عمران فقال: حفظناها سكتة. فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة، فكتب أبي أن قد حفظ سمرة " [4] [ ص: 124 ]

            ( ويروي أبو هـلال قائلا: حدثنا حنظلة أمام مسجد قتادة ، قلت: هـو السدوسي، قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال: قتادة: قبل الركوع، وقلت أنا: بعد الركوع. فأتينا أنس بن مالك ، فذكرنا له ذلك. فقال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، في صلاة الفجر، فكبر وركع، ورفع رأسه، ثم سجد ثم قام في الثانية، فكبر وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة ثم وقع ساجدا ) [5]

            ولا عجب من هـذا التواضع والأدب السامي، فهذه هـي ثمار المدرسة التي أشرف عليها أفضل الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه، وطلبته يعلمون أنه لا يراد بالعلم التباهي، ولكن الوصول إلى الصواب.

            وقد كانوا يستحسنون تعديد الشيوخ الذين يأخذ عنهم الطالب، حتى يتبين له صواب هـذا وخطأ ذاك، فقد كان أيوب يقول: " إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك، فجالس غيره " [6]

            وأيضا حتى يأخذ أدبهم وسلوكهم السامي، وقد كان ذلك ديدنهم، فهذا البخاري مثلا كتب عن أكثر من ألف شيخ [7] وذاك أبو داود سمع الكثير من مشايخ البلدان في الشام ومصر والجزيرة والعراق وخراسان ، وغير ذلك [8] وكذا شأن عامة المحدثين، وما الرحلة إلا وسيلة من وسائل تعديد الشيوخ، وضبط المرويات، وتوسيع الأفق. [ ص: 125 ]

            3- يعرف الطالب وسط المحدثين عدالة وضبطا، فهو يشكل مع الزملاء الذين يأخذون معه عن الشيخ طبقة، يعرف منهم الواحد صاحبه، خصوصا إذا علمنا أنهم كانوا يجتمعون فيما بينهم للمذاكرة قبل الدرس وبعد انتهائه، قصد التفقه والحفظ، واختبار بعضهم البعض، لمعرفة مقدار حفظ هـذا أو ذاك، ثم إن المعاشرة كفيلة بأن تبين لهم إذا كان شخص ما عدلا أو غير عدل.

            وتأثير هـذا يظهر في الأخذ بحديث الراوي، والعمل به، أو تركه، الأمر الذي يعتبر مثال التحري عند المحدثين؛ لأنهم يذودون عن الدين الحنيف من البدع والزيغ والأهواء، فلزمهم أن لا يقبلوا قولا إلا ممن عرفت عدالته وعلم ضبطه.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية