الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            النظم التعليمية عند المحدثين في القرون الثلاثة الأولى

            الأستاذ / المكي أقلانية

            المبحث السابع

            أنواع المجالس عند المحدثين

            يمكن للباحث أن يمايز بين نوعين من المجالس عند المحدثين:

            1- المجلس الأول: وهو مجلس التحديث، وفيه يروي المحدث على الملأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشرحها.

            2- المجلس الثاني: وهو مجلس الإملاء، وهو أعلى مراتب الرواية. المطلب الأول : مجالس التحديث في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد مجلسا يذكر فيه أصحابه بالله عز وجل ، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويضرب لهم الأمثال للوعظ، ويعلمهم دقائق الشريعة.. وعلى هـذا كان الصحابة يسيرون، مهتدين بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تطيبه وتجمله وطريقة جلسته وتحديثه.

            فكيف كان المحدثون يلقون دروسهم؟ وما هـي التزاماتهم؟ وكيف كانوا يعاملون طلبتهم؟

            هذا ما سنحاول توضيحه من خلال تتبعنا للخطوات التي ينهجها الشيخ، انطلاقا من المنزل إلى أن يصل إلى مكان الدرس.

            * لما انتشرت الكتب، أصبح العلماء يعكفون على التحضير في الليل، قبل الذهاب إلى المجلس في الصباح، في حالتي التحديث من حفظ أو كتاب. والتحضير إنما هـو للتركيز فقط، فعادة ما يكون [ ص: 51 ] المحدث حافظا لكتبه، لئلا يزاد عليه حرف أو لفظه أو حديث بكامله. وخير مثال على ذلك: ابن أبي داود ، الذي لما ذهب إلى سجستان ، اجتمع عليه الناس، وسألوه أن يحدثهم، فقال: " ليس معي كتاب. فقالوا: ابن أبي داود وكتاب؟ قال: فأثاروني، فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث [1] فلما قدمت قال البغداديون: لعب بأهل سجستان. ثم فتحوا فتحا اكتروه بستة دنانير، ليكتبوا لهم النسخة، فكتبت وجيء بها، فعرضت على الحافظ، فخطأوني في ستة أحاديث، منها ثلاثة رويتها كما سمعت " [2]

            وهذا ابن حزم الأندلسي (ت456هـ) أعاد كتابة جملة من كتبه، من حفظه بعد أن أحرقت في إشبيلية ، بسبب حسد الحساد، وفي ذلك قال [3] :

            فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس، بل هـو في صدري     يسير معي حيث استقلت ركائبي
            وينزل إن أنزل، ويدفن في قبري     دعوني من إحراق رق وكاغد
            وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري     وإلا فعودوا في المكاتب بدأة
            فكم دون ما تبغوه لله من ستر

            [ ص: 52 ] وفي الصباح، لما يعزم الذهاب إلى المجلس، يتطهر ويتطيب، وذلك تعظيما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحتى لا يتأذى الحضور برائحة العرق، والإسلام دين يحض على النظافة.

            لهذا فإنه يستعمل السواك، حتى يتخلص من رائحة الفم، ويقلم أظافره؛ لأنها تجمع الأوساخ، ثم يأخذ من شاربه، ويسكن شعث رأسه، حتى يبدو في هـيئة مقبولة، ويفضل استعمال البيض من الثياب؛ لأنها علامة الطهر، ويكور العمامة لأنها تيجان العرب، ويسرح لحيته بالمشط، ويستعمل الطيب إن توفر لديه. كل هـذا تمشيا مع هـدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . فقد نقلت عنه أحاديث كثيرة في هـذا الشأن [4]

            وأن من صفات العلماء الالتزام بالتوجيهات النبوية، وهكذا نجد قتادة يستحب أن لا يقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا على وضوء، ولا يحدث إلا على طهارة [5]

            وكان مالك والليث بن سعد ، لا يكتبان الحديث إلا وهما طاهران [6]

            ولعل ما حكاه مطرف يبرز لنا بجلاء مدى تعظيم العلماء لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد " كان إذا أتى الناس مالكا خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل؟ [7]

            فإن قالوا: المسائل، خرج إليهم، وإن قالوا: [ ص: 53 ]

            الحديث، دخل مغتسله واغتسل وتطيب، ولبس ثيابا جددا، ولبس ساجه، وتعمم، ووضع على رأسه رداءه، وتلقى له منصة، فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع، ولا يزال يتبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم [8]

            وعندما يخرج من منزله متوجها إلى المجلس، يدعو المحدث بدعاء صحيح [9]

            وهو في طريقه، يقصد في مشيه، فيسير في وقار وسكينة، بناء على قوله تعالى: ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هـونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) [الفرقان:63]. وقد فسر ابن كثير الآية بقوله: أي بسكينة ووقار [10] ، من غير جبرية ولا استكبار، كقوله تعالى: ( ولا تمش في الأرض مرحا ) [الإسراء:37، لقمان: 18].

            * وإذا لقي أحدا من المسلمين ابتدأه بالسلام، ( لقوله عليه السلام : " من بدأ بالسلام فهو أولى بالله عز وجل ورسوله ) [11] [ ص: 54 ]

            وعندما يصل إلى مكان الدرس، يتوجه بالسلام إلى عامة الحضور [12]

            ويتفقد أحوالهم؛ لأنه سبيل إلى توثيق عرى المحبة ونشر لروح التواضع في المجلس.

            * ثم يصلي ركعتين إن لم يكن وقت كراهة.

            * وبعد الانتهاء من الصلاة يجلس إلى السارية التي تعود الجلوس عندها.

            وهو سنة جارية عند العلماء، ففي كثير من النصوص نجد الإشارة إلى ذلك، منها قول الرامهرمزي : " ولولا عناية الطالب بضبط الشريعة وجمعها، واستنباطها من معادنها، لم يتصدر هـو وأصحابه إلى السواري، ولا عقد أهل الفتيا مجالسهم في المسائل... " [13]

            وأخرج ابن سعد ، عن هـلال بن يساف قال: " قدمت البصرة فدخلت المسجد، فإذا أنا بشيخ أبيض الرأس واللحية، مستند إلى أسطوانة في حلقة يحدثهم. فسألت: من هـذا؟ قالوا: عمران بن حصين رضي الله عنهما " [14]

            وعن الأعمش قال: " جهدنا بإبراهيم حتى نجلسه إلى سارية فأبى " [15] لأنه كان لا يحب الشهرة. وهذا تواضع منه، قلما نجده في صفوف العلماء اليوم. [ ص: 55 ]

            والهدف من الجلوس إلى سارية بعينها، وملازمتها عند التحديث، هـو أن يكون مكانه معلوما لدى العامة والخاصة، يجدونه بسهولة عند الحاجة.

            * وأثناء اشتغال المحدث بنفسه، يهتم نقيبه بنظام المجلس واستنصات الحاضرين [16] ، خصوصا عندما يكون عددهم هـائلا، كما يصوره لنا أبو بكر الداودي في قوله: " كان يحضر مجلس المحاملي عشرة آلاف رجل " [17]

            وبهذا نفهم مدى أهمية النظام في حلقة الدرس، فبدونه لا يتأتى للجالس في آخر الصف مثلا، أن يسمع ما يقوله المحدث، والنظام المتبع، هـو أن يجلس الواحد خلف أخيه، أو جنبه مجتمعين غير متفرقين [18]

            * ويجلس المحدث على مرتفع، حتى يكون بارزا يراه الجميع، " فعن أبي السليل القيسي قال: قدم علينا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يجتمعون عليه، فإذا كثروا، صعد أعلى ظهر بيت، فحدثهم " [19] .

            وقد كانت تلقى للإمام مالك منصة، فيجلس عليها [20] . [ ص: 56 ] ومن أدب المحدث في جلوسه أن يستقبل القبلة. فعن ابن عباس رضي الله عنهما " قال: لكل شيء شرف، وإن شرف المجالس ما استقبل به القبلة " [21]

            * ويحافظ على هـيبة ووقار المجلس، تعظيما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يمنعه من الترحيب بالطلبة، وتفقد أحوالهم، والسؤال عن حال من تغيب. وفي ذلك تشجيع لهم وكسب لمحبتهم.

            * ثم يأمر المحدث شخصا حسن الصوت، أن يقرأ سورة من القرآن، أو ما تيسر منها لافتتاح الدروس، تأسيا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " فعن أبي نضرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا ليذكروا العلم، قرأوا سورة " [22]

            * وبعد الانتهاء من القراءة، يستنصت المحدث، أو النقيب الطلبة، قبل بدء الدرس، كما فعل الرسول الكريم في حجة الوداع ، إذ استنصت الناس، ثم ( قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) [23]

            * وعندما يهم المحدث بالكلام يبسمل ويحمدل، ويدعو الله أن يوفقه، ويحفظ لسانه من الزلل، بناء على ( قوله عليه السلام : كل أمر [ ص: 57 ] ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله، أقطع ) ،

            وفي رواية أخرى: ( لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع ) . وفي أخرى: ( لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ) [24]

            * ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويردف ذلك بالترضي على الصحابة الكرام، والترحم على الشيوخ.

            * وبعد أن ينتهي من هـاته المقدمات، ينتقل إلى التحديث، أو ينتظر أن يسأل، أو يطلب أن توجه إليه الأسئلة. فعن الليث بن سعد قال: " كان سعيد بن المسيب يركع ركعتين، ثم يجلس فيجتمع إليه أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من المهاجرين والأنصار ، فلا يجترئ أحد منهم أن يسأله شيئا إلا أن يبتدئهم بحديث، أو يجيئه سائل فيسأل فيسمعون " [25]

            " وعن ابن أبي مليكة قال: دخلنا على ابن عباس ، فقال: سلوني، فإني قد أصبحت طيبة نفسي، أخبرت أن الكوكب ذا الذنب قد طلع، فخشيت أن يكون الدخان، وقال: الدجال قد طرق، وسلوني عن سورة البقرة، وسورة يوسف " . قال ابن أبي مريم في حديثه: يخصهما بين السور [26] [ ص: 58 ]

            * وقد يبتدئ المحدث درسه للسامعين تشويقا لهم، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( فعن معاذ قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هـل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.. ) [27]

            * وأثناء الحديث، يتحرى الشيخ، الرواية عن الثقات [28] ، خصوصا وأنه بصدد تعليم أفراد سيكونون علماء هـذه الأمة. لذلك نجد مالكا يقول: " إن هـذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه. لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عند هـذه الأساطين- وأشار إلى المسجد- فما أخذت منهم شيئا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هـذا الشأن " [29]

            وهذه هـي حال من لا يستوثق مما يروي، إذ يخفت ذكره، وينحل مجلسه، ليحل مكانه من هـو أهل لذلك. والطلبة بطبعهم لا يأخذون عن غير العدل. لهذا نراهم يسألون الناس عن المحدث أسئلة دقيقة وكثيرة، حتى يعتقد أنهم يريدون أن يزوجوه، ثم ينظرون إلى صلاته وهيئته، وبعد ذلك يأتي الحكم الأخير: ألا وهو الأخذ عنه، أو تركه. فعن أبي العالية ، قال: " كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه، فننظر إذا صلى، فإن أحسنها جلسنا، وقلنا: هـو لغيرها أحسن، وإن أساءها قمنا عنه، وقلنا: هـو لغيرها أسوأ " [30] [ ص: 59 ]

            * واحترام المحدثين للحديث أمر عجيب، حتى إنك لتراهم يمزحون ويضحكون، فإذا ذكر عندهم الحديث خشعوا [31] . وفي ذلك يروي مالك أنه " جاء رجل إلى ابن المسيب ، فسأله عن حديث وهو مضطجع، فجلس وحدثه. فقال له الرجل، وددت أنك لم تتعن. فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع " [32]

            ويروي عبد الله بن المبارك أنه حضر مجلسا لمالك، فلدغته عقرب ست عشرة مرة، ومالك يتغير لونه ويصفر، ولا يقطع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما فرغ وتفرق الجميع، قال له ابن المبارك: " يا أبا عبد الله، لقد رأيت اليوم منك عجبا. فقال: نعم، إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " [33]

            * لكن هـذا التبجيل لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يمنع المحدثين، منذ عهد مبكر جدا، أن يبحثوا عن وسائل ترفيهية يستعملونها أثناء التحديث، لرفع الملل عن النفوس. وعلى هـذا، " كان ابن عباس يقول لأصحابه: إذا أفاض من عنده في الحديث بعد القرآن والتفسير: أحمضوا " [34] [ ص: 60 ]

            وعن أبي خالد الوالي ، قال: " كنا نجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فيتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أيامهم في الجاهلية " [35]

            وعن عمر بن عبد العزيز قال: " تحدثوا بكتاب الله تعالى، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم، فحديث من أحاديث الرجال حسن جميل " [36]

            ولهم فيما يفعلونه سند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يلجأ إلى تفسير الأحلام للقوم، وإلقاء ألغاز عليهم ليبحثوا عن حلها ترفيها لهم.. كما أنه لم يكن يجعل كل أيامه أيام وعظ وتدريس. " فعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا " [37]

            كما نجد ابن عباس رضي الله عنهما يذكر الناس في كل خميس [38] ، حتى لا يمل الناس. وما هـذا إلا لكي يبقى الطلبة مشدودين إلى العلم؛ لأن المحدث إذا أملهم اجتنبوا مجلسه [39] ، فيفشل في مهمته السامية، ألا وهي تكوين رجال قادرين على الدفاع عن هـذا الدين من الزيغ وابتداع المبتدعين.

            وبعد هـذا وذاك، فإن الشيخ لا يتابع حديثه إلا بعد أن يتأكد من بقاء الطلبة على نشاطهم للاستماع، أما عندما يحس منهم فتورا، فإنه يفهم أن لديهم أشغالا، أو أنهم بدأوا يفقدون القدرة على الاستيعاب [ ص: 61 ] والتركيز، فيختصر الكلام لينهي المجلس. فعن الحسن البصري قال: " كان يقال: حدث القوم ما أقبلوا عليك بوجوههم، فإذا التفتوا، فاعلم أن لديهم حاجات " [40]

            وفي هـذا إشارة إلى ضرورة الوعي والتركيز اللذين يشترطهما المحدثون، سواء في الراوي أو السامع.

            * وبصفة عامة، كان المحدثون يقلون من رواية الحديث، خصوصا في العهود الأولى. فالأعمش إذا حدث بثلاثة أحاديث يقول: " قد جاءكم السيل " [41]

            ويقول قلابة : " قد أكثرت " ، بينما لم يرو إلا ثلاثة أحاديث. ولا يرضى أبو الوليد هـشام بن عبد الملك ، أن يروي أكثر من ذلك [42]

            وعندما استقل عمرو بن أبي سلمة سماعة ثلاثين حديثا فقط من الأوزاعي خلال أربعة أيام، رد عليه قائلا: " وتستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ لقد سار جابر بن عبد الله إلى مصر ، واشترى راحلة وركبها حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث واحد وانصرف! وأنت تستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام " [43]

            ويشير الزهري إلى علة تقليل الحديث بأن " من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديثا وحديثين " [44] [ ص: 62 ]

            وعند التأمل، يتضح لنا أن من أسباب تقليل الحديث:

            1- الحفظ: فإنه يعسر حفظ مجموعة كبيرة من الأحاديث دفعة واحدة، سندا ومتنا.

            2- العلم بما يشمله الحديث من الأحكام الفقهية والفضائل، ولا ينال ذلك إلا بالتدريج، شيئا فشيئا.

            3- التمكن من معرفة الرواة ومكانتهم، من حيث العدالة والضبط واتصال بعضهم ببعض، والرواية بطريقة تفيد صحة تحمل الراوي للحديث، بهدف الحكم على الخبر صحة وضعفا، والترجيح عند تعارض الأخبار.

            4- التمكن من معرفة أسباب اختلاف الأحاديث، وبقية العلوم المتعلقة بها.

            * إلى جانب قلة التحديث، كان المحدث يعيد الحديث ثلاث مرات، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى البخاري في تاريخه عن أبي سلام ( عن رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا حدث حديثا أعاد ثلاثا ) [45]

            حتى يفهم عنه الكلام. قال أبو أمامة الباهلي : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم، تكلم ثلاثا لكي يفهم عنه ) [46]

            وليتمكن الصحابة من حفظه واستيعابه أيضا. لهذا كان العلماء يوصون بتكرار [ ص: 63 ] الحديث، " فعن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال: " إذا أراد أحدكم أن يروي حديثا، فليردده ثلاثا " [47]

            * وفي رواية الحديث، يبدأ الشيخ بالسند أولا، وبعد ذلك يذكر المتن، وأحيانا يفعل العكس.

            * بعد ذلك يعرف بالرجال المذكورين في السند، ثقات هـم، أم مقدوح فيهم. ومن قبيل ذلك، ما أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " قال: " ثنا عبد الرحمن ، أنا [48] ابن أبي خيثمة فيما كتب إلي، قال: سمعت أبي يقول: الحسن ابن دينار ضعيف " [49] . وسماعه هـذا كان في مجلس. والأمثلة على ذلك كثيرة في كتب الجرح والتعديل.

            * ثم ينتقل إلى الكلمات الغامضة في النص فيشرحها، كصنيع الزهري عند روايته لحديث: ( لا عتيرة ولا فرع في الإسلام، ولا جلب، ولا جنب ) ، فقد قال: " والعتيرة: ذبح كان لمضر في الجاهلية " [50]

            وفي هـذا قال سفيان الثوري : " تفسير الحديث خير من الحديث " [51] [ ص: 64 ]

            أما في حالة ما إذا سئل عن المعنى ولم يفهمه، فالأولى أن يصرح بأنه لا يدري بدون حرج، حتى أنهم عدوا: " لا أدري " نصف العلم [52]

            * وفي آخر المطاف، يقوم المحدث بدراسة فقه الحديث. وقد يختبر ذكاء السامعين، فيطلب منهم توضيح مسألة من المسائل، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ قال مرة لأصحابه: ( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل الرجل المسلم. حدثوني ما هـي؟ قال عبد الله - أي: ابن عمر- : فوقع الناس في بوادي الشجر. ووقع في نفسي أنها النخلة. قال: فاستحييت. فقالوا: يا رسول الله ما هـي؟ قال: النخلة. قال عبد الله بن عمر : فحدثت عمر بن الخطاب بالذي وقع في نفسي، فقال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا ) [53]

            وبهذا يبث في نفسية السامعين روح البحث والحوار. وهو ما يسمى اليوم بالطريقة الحية أو الحوارية (methode Active) ، وعليها المعتمد في التدريس خصوصا في المستويات الدنيا والمتوسطة، يقابلها الطريقة التلقينيةMethode Dogmative.

            كما أن هـذا النوع من الأسئلة يدخل في إطار الوسائل الترفيهية المتبعة لرفع الملل عن الحاضرين.

            * ولما ينتهي المحدث من المسألة أو الرواية، يسكن قليلا حتى يتكلم من في نفسه سؤال عن شيء استغلق عليه، علما بأنه من الخروج عن الأدب مقاطعته أثناء الدرس [54] [ ص: 65 ]

            وباتباع طريقة طرح الأسئلة، والسكوت بين الفينة والأخرى، يضمن المحدث فهم الدرس من طرف أكبر عدد ممكن من الطلبة.

            * وعندما يريد المحدث إنهاء الدرس، يدعو بدعاء يختاره. فابن سيرين كان يقول: " اللهم لك الشكر " [55]

            وكان هـجير قتادة يقول: " ألا إلى الله تصير الأمور " [56]

            أما الحسن البصري فكان يقول: " سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " [57]

            * وبعد الانتهاء من الدعاء، يحدد للطلبة موعدا يلتقي فيه بهم، إما صباحا، أو بعد العصر، أو بين العشاءين، مع بيان ما إذا كان سيخصص ذلك اليوم للتحديث أو الإملاء.

            * ثم يكون آخر من يغادر المجلس، لئلا يزاحم الطلبة، ولكي يتسنى لمن لديه سؤال أخير أن يوجهه إليه [58]

            نموذج من مجلس مالك :

            في الديباج: قال الواقدي وغيره: كان مجلسه مجلس وقار وحلم. وكان رجلا مهيبا نبيلا، ليس في مجلسه شيء من المراء، ولا رفع صوت. إذا سئل عن شيء فأجاب سائله، لم يقل له: من أين رأيت هـذا؟، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث والحديثين، فيجيبهم الفئة بعد الفئة، وربما أذن لبعضهم فقرأ عليه. وكان له كاتب قد نسخ كتبه، [ ص: 66 ] يقال له " حبيب " يقرأ للجماعة، فليس أحد ممن حضر يدنو منه ولا ينظر في كتابه، ولا يستفهمه، هـيبة وإجلالا. وكان حبيب إذا أخطأ فتح عليه مالك رحمه الله تعالى، وكان ذلك قليلا. ولم يكن يقرأ كتبه على أحد. وكان كالسلطان: له حاجب يأذن عليه، فإذا اجتمع الناس ببابه، أمر آذانه فدعاهم، فحضر أولا أصحابه، فإذا فرغ من يحضر، أذن للعامة، وهذا هـو المشهور من سماع أصحاب مالك، أنهم كانوا يقرأون عليه، إلا يحيى بن بكير ، ذكر أنه سمع الموطأ من مالك أربع عشرة مرة، وزعم أن أكثرها بقراءة مالك، وبعضها بالقراءة عليه. وعوتب مالك في تقديمه أصحاب، فقال: أصحاب جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال حبيب: وكان إذا جلس جلسة لم يتحول عنها حتى يقوم. وقال مطرف: كان مالك إذا أتاه الناس، خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا: المسائل، خرج إليهم وأفتاهم. وإن قالوا: الحديث، قال لهم: اجلسوا، ودخل مغتسله فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابا جددا، وتعمم ووضع على رأسه طويلة. وتلقى له منصة، فيخرج إليهم وعليه الخشوع، ويوضع عود، فلا يزال يتبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان لا يوسع لأحد في حلقته، ولا يرفعه، ويدعه يجلس حيث انتهى به المجلس. ويقول إذا جلس للتحديث: ليلني منكم ذوو الأحلام والنهى " [59]

            وقد كان يضع إحدى رجلية على الأخرى [60] [ ص: 67 ]

            المطلب الثاني : مجالس الإملاء يعتبر الإملاء أعلى درجات الرواية، لما فيه من ضبط الحروف والكلمات في الكتب. وقد عقدت مجالس الإملاء منذ عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يملي كتبه على الكتاب. وكتب عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفته الصادقة بين يديه [61]

            وكانت الكتب التي تكتب بين يديه عليه السلام ، تقرأ عليه ليقومها، سواء كان وحيا، أو حديثا، أو رسالة. من ذلك ما روي ( عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي علي، فإذا فرغت. قال: اقرأه، فأقرأه. فإن كان فيه سقط أقامه ) [62]

            وعن هـبيرة بن عبد الرحمن عن أبيه- أو عن رجل [63]

            قال: " كنا إذا أتينا أنس بن مالك وكثرنا عليه، أخرج إلينا مجال من كتب، فقال: هـذه كتب سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرأناها عليه " [64]

            وقد عقد بعض الصحابة مجالس الإملاء، منهم واثبة بن الأسقع. فعن معروف الخياط قال: " رأيت واثبة بن الأسقع يملي على الناس [ ص: 68 ] الأحاديث وهم يتكتبونها بين يديه " [65]

            كما عقدها من جاء بعدهم، أمثال شعبة بن الحجاج، ووكيع بن الجراح، فكيف كانوا يعقدون هـذه المجالس؟

            في الطليعة، نجد نفس المقدمات التي يمر بها المحدث، حال التحديث من تسليم على الحاضرين، وصلاة، وجلوس إلى السارية إذا كان في مسجد، وحرص على أن يكون ظاهرا للطلاب، فيقعد على مرتفع، ويفتتح بقراءة شخص حسن الصوت سورة من القرآن، أو ما تيسر منها. بعد ذلك يستنصت هـو أو نقيبه الناس ثم يبدأ في إملاء الأحاديث على الملأ، بعد البسملة والحمد لله، والدعاء، والترحم على الشيوخ، ثم يختم المجلس بحكايات ونوادر. فعن البرقي قال: " الحكايات حبوب تصطاد بها القلوب "

            [66]

            واكتفاء المحدث بإملائه دون مساعدة على تبليغ كلامه، إنما هـو في حالة ما إذا كان الحاضرون معدودين، فيستطيع أن يسمع صوته من في آخر الحلقة.

            لكن لما اتسعت مجالس الإملاء، وتدفق الطلبة على الحلقات العلمية من كل حدب وصوب، احتاج المملي إلى من يعينه على التبليغ، وهو ما يطلق عليه اسم: المستملي، مثل يحيى بن راشد، [ ص: 69 ] ومحمد بن أبان ، والربيع بن سليمان المرادي ، وعبد الوهاب بن عطاء ، وغيرهم كثير [67]

            ومع كثرة الطلبة، احتاج المملي إلى أكثر من مستملي، حتى أنه قد وصل عددهم في الرواية إلى ثلاثمائة وستة عشر [68] ، يرددون كلام الشيخ، حتى يسمع الجميع لعدم وجود مكبر الصوت في ذلك الوقت.

            وكان المستملي يرتقي نخلة مائلة أحيانا، بسبب كثرة الحاضرين، ليسمعهم ما يقول الشيخ، فعن عمر بن حفص ، قال: " وجه المعتصم من يحرز مجلس عاصم بن علي بن عاصم في رحبة النخل التي في جامع الرصافة ، قال: وكان عاصم بن علي يجلس على سطح المسقطات، وينتشر الناس في الرحبة وما يليها، فيعظم الجمع جدا، حتى سمعته يوما يقول: ثنا الليث بن سعد ، ويستعاد. فأعاد أربع عشرة مرة والناس لا يسمعون. قال: فكان هـارون المستملي يركب نخلة معوجة ويستملي عليها. فبلغ المعتصم كثرة الجمع، فأمر بحرزهم، فوجه بقطاعي الغنم، فحرزوا المجلس عشرين ألفا ومائة ألف " [69]

            وفي حالة وجود المستملي فإنه هـو الذي يقوم باستنصات الناس، ثم يذكر اسم الشيخ وكنيته [70]

            حتى يكتبها الطلبة في كتبهم، وذلك بعد [ ص: 70 ] الدعاء لنفسه وللحاضرين

            [71]

            ثم يقول المستملي للمملي: " من ذكرت؟ رضي الله عنك " ، أو " رحمك الله " [72]

            فيرد عليه قائلا: " أخبرنا أبو فلان فلان بن فلان " . ويروي الحديث، ويذكر كلمة كلمة، ويحاكيه المستملي بصوت مرتفع قدر إسماع الحاضرين دون أذايتهم. وهو في ذلك يحافظ على اللفظ الذي يسمعه من الشيخ، دون زيادة أو نقصان أو تحريف [73]

            وأثناء ترديد المستملي كلام الشيخ، يقوم هـذا الأخير بالاستغفار، والدعاء. فقد كان يونس بن عبيد يحدث، ثم يقول: " أستغفر الله " [74]

            ومن سنة السلف، عدم اضجار القوم وإملائهم بتمديد وقت الدرس. لذلك، كانوا يسعون الى رفع المللل بشتى الوسائل، سواء بالنوادر أو الأشعار وغيرها. " فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: " إن هـذه القلوب تمل كما تمل الابدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة " [75] [ ص: 71 ]

            وعندما يريد الشيخ إنهاء الدرس، يشعر بذلك، كأن يقول: " والله أعلم " أو " هذا آخره، وما بعده يأتي إن شاء الله تعالى، يوم كذا " [76]

            ثم يدعو دعاء يختاره من الأدعية النبوية، ويدعو لمن حضر المجلس، كما كان يفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما [77]

            وتأتي في النهاية الحلقة الأخيرة من حلقات الدرس، وهي العرض والمقابلة لتصحيح المكتوب والتيقن من سلامته من الخطأ.

            وقد طبق العرض منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما المقابلة، فإنها ظهرت وانتشرت بشيوع الكتب، فكان المملي عليه أو من حصل على كتاب، يتوجه إلى الشيخ، أو إلى من بيده الكتاب الأصل، ليقابل كتابه به، حتى يتأكد من سلامة المنقول من الزيادة أو النقص أو التحريف. وهذه أمانة علمية تعد مكرمة في حق السلف.

            ففيما يتعلق بالعرض، كان زيد بن ثابت عندما ينتهي من كتابة ما يملي عليه الرسول من الوحي أو غيره، يقرأه عليه، حتى إذا ما كان فيه سقط أقامه [78]

            وقد أكد المحدثون على ضرورة العرض، فنجد الأوزاعي يقول: " مثل الذي يكتب ولا يعارض، مثل الذي يدخل الخلاء ولا يستنجي " [79] [ ص: 72 ]

            وهكذا نجدهم يعيبون على من لا يعرض كتبه. فعن السري بن يحيى قال: " سمعت قبيصة يقول: رأيت زائدة يعرض كتبه على سفيان الثوري ، ثم التفت إلى رجل في مجلس فقال: ما لك لا تعرض كتبك على الجهابذة كما نعرض.

            [80] ؟!

            أما فيما يتعلق بالمقابلة، فإننا نجد أن المحدثين كانوا يجعلونها ضرورية لضبط المكتوب، مثلها مثل العرض. وفي ذلك ما أخرجه الرامهرمزي عن أبي الزناد قال: " في كتاب أبي: هـذا ما سمعته من عبد الرحمن بن هـرمز الأعرج. قال: فكلما انقضى حديث، أدار دارة، ثم قال: هـكذا كل الكتاب " [81]

            ووضع الدارات بهذا الشكل: ا، علامة على أن الحديث قد قوبل، إما على كتاب أصل، أو فرع صحيح، أو عرض على الشيخ، فأقر صيغته على نحو ما هـو مكتوب.

            وهنا من يضع النقط داخل الدارة، قد تصل أحيانا إلى الثلاثة كما في هـذا الشكل:، علامة على أن الحديث قد قوبل ثلاث مرات زيادة في الضبط، كما كان يفعل الإمام أحمد بن حنبل .

            وبهذا يكون للمحدثين فضل السبق في الضبط والأمانة العلمية، هـذه الأمانة التي نفتقدها اليوم عند الكثير من الباحثين، فيحرفون النصوص لخدمة أهدافهم، أولا يتثبتون مما ينقلون، وفي هـذا خطر كبير على البحث العلمي وأيما خطر!! [ ص: 73 ]

            وإذا وجد صاحب الكتاب خطأ عنده، كأن يكون قد أخطأ في كتابة كلمة مثلا، أو وضع كلمة عوض أخرى، فإنه يضع خطأ عليها، على ألا يمحو أثرها لتبقي مقرؤة [82] ويعلم الناظر في الكتاب حسن نية صاحبه، وأنها ليست من فعل فاعل.

            وإذا ما وجد كلمة عنده، وخاف أن تشكل عليه أو على غيره، فإنه يضع فوقها، أو تحتها علامة تميزها من غيرها، للتأكيد على صحتها، كما فعل عبد الله بن إدريس الكوفي ، وفي ذلك يروي قائلا: " لما حدثني شعبة بحديث أبي الحوراء السعدي ، عن الحسن بن علي . كتبت أسفله: (حور عين) لئلا أغلط " يعني: فيقرأ " أبا الجوزاء " لشبهه في الخط [83] [ ص: 74 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية