الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7420 [ ص: 238 ] ص: وقد قال قوم في بنت وعصبة: إن للابنة جميع المال، ولا شيء للعصبة، فكفى بهم جهلا في تركهم قول كل الفقهاء إلى قول لم نعلم أن أحدا قال به قبلهم من أصحاب رسول الله -عليه السلام- ولا من تابعيهم، مع أن ما ذهبوا إليه من ذلك يدفعه نص القرآن؛ لأن الله -عز وجل- قال: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فبين الله -عز وجل- لنا بذلك كيف حكم الأولاد في المواريث إذا كانوا ذكورا وإناثا.

                                                ثم قال -عز وجل-: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك فبين لنا تبارك وتعالى حكم الأولاد إذا كانوا نساء.

                                                ثم قال -عز وجل-: وإن كانت واحدة فلها النصف فبين لنا ميراث الابنة الواحدة.

                                                فلما بين لنا مواريث الأولاد على هذه الجهات؛ علمنا بذلك أن حكم ميراث الواحدة لا يخرج عن هذه الجهات الثلاث، واستحال أن يسمي الله -عز وجل- للابنة النصف وللبنات الثلثين ولهن أكثر من ذلك إلا لمعنى آخر بينه في كتابه أو على لسان رسوله -عليه السلام-، كما أبان في مواريث ذوي الأرحام. ولو كانت الابنة ترث المال كله دون العصبة لما كان لذكر الله -عز وجل- النصف معنى، ولأهمل أمرها كما أهمل أمر الابن، فلما بين لها ما ذكرنا كان توقيفا منه -عز وجل- إيانا على أن ما سمى لها من ذلك هو سهمها كما كان ما سمى للأخوات من قبل الأم بقوله تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث

                                                فكان ما بقي بعد ما سمى لهن للعصبة وكذلك ما سمي للزوج والمرأة فما بقي [ ص: 239 ] بعد الذي سمى لهما للعصبة فكذلك البنت ما بقي بعد الذي سمى لها للعصبة.

                                                هذا دليل قائم صحيح في هذه الآية، ثم رجعنا إلى قوله تعالى: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلم يبين لنا هاهنا من ذلك الولد؟ فدلنا ما تقدم من قوله في الآية التي ذكرنا التي وقفنا فيها على أنصباء الأولاد؛ أن ذلك الولد هو بخلاف الولد الذي سمي له الفرض في الآية الأخرى.

                                                ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- فيما ذكرنا أيضا ما حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، وبحر بن نصر ، قالا: ثنا عبد الله بن وهب ، قال: أخبرني داود بن قيس ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله: " ، أن امرأة سعد بن الربيع ، أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن سعدا قتل معك وترك ابنتيه وأخاه فأخذ أخوه ماله، وإنما تتزوج النساء لما لهن، فدعاه رسول الله -عليه السلام- فقال: أعط امرأته الثمن، وابنتيه الثلثين، ولك ما بقي".

                                                7422 حدثنا يونس ، قال: ثنا علي بن معبد ، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، عن النبي -عليه السلام- مثله.

                                                فقد وافق هذا أيضا ما ذكرنا، وبهذا كان أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد -رحمهم الله- يقولون به، وبه يقول أيضا أكثر الفقهاء.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالقوم هؤلاء [..] فإنهم قالوا: إذا مات رجل وخلف بنته وعصبة، المال كله للبنت دون العصبة. وهذا مذهب فاسد، وقد بين فساده بقوله: يكفي بهم جهلا...إلى آخره، وهو ظاهر.

                                                قوله: "ثم رجعنا إلى قوله -عز وجل-: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله إلى آخره". أشار بهذا الكلام إلى بيان الفرق بين الولد المذكور في قوله تعالى: [ ص: 240 ] إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت وبين الولد المذكور في قوله -عز وجل-: يوصيكم الله في أولادكم ؛ وذلك لأن توقيف الله تعالى إيانا في هذه الآية على أنصباء الأولاد يدل على أن الولد المذكور في قوله: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت هو الولد الذكور خاصة دون الإناث؛ لأنه بين في تلك الآية أنصباء الأولاد الذكور والإناث بقوله: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ثم إذا قلنا: إن المراد من الولد في الآية الأخرى الذكور والإناث جميعا؛ للزم أن تكون أنصباء الأولاد الذكور والإناث قد بينت على نوعين مختلفين وليس كذلك.

                                                فدل أن المراد من الولد في قوله تعالى: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت الذكور دون الإناث؛ فافهم. والله أعلم.

                                                قوله: "ثم قد روي عن رسول الله -عليه السلام- فيما ذكرنا... إلى آخره". ذكره تأكيدا لصحة ما بينه من بطلان المذهب المذكور، ولصحة ما ذهب إليه الجمهور من توريث العصبة مع البنت.

                                                ثم إنه أخرج حديث جابر - رضي الله عنه - من طريقين:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري وبحر بن نصر بن سابق الخولاني، كلاهما عن عبد الله بن وهب ، عن داود بن قيس الفراء الدباغ ، عن عبد الله بن محمد عقيل بن أبي طالب القرشي -فيه مقال- عن جابر بن عبد الله .

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا ابن السرح، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني داود بن قيس وغيره من أهل العلم، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله، إن سعدا هلك وترك ابنتين...الحديث" نحوه.

                                                [ ص: 241 ] الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضا، عن علي بن معبد بن شداد الرقي ، عن عبيد الله بن عمرو الرقي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر .

                                                وأخرجه الترمذي: ثنا عبد بن حميد، قال: أخبرني زكرياء بن عدي، أنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله -عليه السلام- فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية المواريث، فبعث رسول الله -عليه السلام- إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك". قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل. وقد رواه شريك أيضا عن عبد الله بن محمد بن عقيل" .

                                                قوله: "إن امرأة سعد". هو سعد بن الربيع بن عمرو الأنصاري قتل يوم أحد شهيدا، وامرأته النوار بنت مالك بن مخرمة من بني عدي بن النجار، وهي أم زيد بن ثابت الأنصاري، وذكر في بعض كتب الفرائض وشروحها: "أن امرأة سعد بن الربيع لما استشهد يوم بدر، وفي شرح جواهر زاده: "يوم أحد" وهو الأصح على ما نص عليه الترمذي في روايته. وقيل: كان هذا أول ميراث قسم في الإسلام.

                                                قوله: "وبهذا كان أبو حنيفة". أي بما ذكرنا من قول أهل المقالة الثانية أخذ أبو حنيفة ...إلى آخره. وهو قول جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية