الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7332 ص: ومع هذا فقد روى أهل هذا المذهب لمذهبهم آثارا احتجوا له بها، غير أن في بعضها طعنا على مذهب أهل الآثار وأكثرها سليم من ذلك، وسنأتي بها كلها وبعللها وفساد ما يفسده أهل الآثار منها في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

                                                فمما روي في ذلك مما طعن فيه أهل الآثار: ما حدثنا أبو أمية ومحمد بن علي بن داود، قالا: ثنا الحسين بن محمد المروزي ، قال: ثنا جرير بن [ ص: 516 ] حازم ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: " أن رجلا زوج ابنته وهي بكر وهي كارهة، فأتت النبي -عليه السلام- فخيرها ". فكان من طعن من يذهب إلى الآثار والتمييز بين رواتها وتثبيت ما روى الحافظ منهم وإسقاط ما روى من هو دونه: أن قالوا: هكذا روى هذا الحديث جرير بن حازم، وهو رجل كثير الغلط، وقد رواه الحفاظ عن أيوب على غير ذلك، منهم سفيان الثوري 5 وحماد بن زيد وإسماعيل بن علية، فذكروا في ذلك ما 7333 حدثنا أحمد بن داود ، قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد الوهاب ، قال: ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أيوب السختياني ، عن عكرمة: " أن النبي -عليه السلام- فر بين رجل وبين امرأته زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا". . فثبت بذلك عندهم خطأ جرير في هذا الحديث من وجهين: أما أحدهما: فإدخاله ابن عباس فيه، وأما الآخر: فذكره أنها كانت بكرا، وإنما كانت ثيبا. .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي ومع ما ذكرنا من الدليل لأهل المقالة الثانية "فقد روى أهل هذا المذهب" وأراد بهم: أهل المقالة الثانية "لمذهبهم آثارا"، أي أحاديث "احتجوا له"، أي لمذهبهم "بها" أي بهذه الآثار، وأراد بذلك أنهم لم يكتفوا بالجواب عن حديثي أبي موسى وأبي هريرة وبمنعهم استدلال أهل المقالة الأولى بذلك، بل مع هذا رووا أحاديث وآثارا لما ذهبوا إليه من عدم جواز إجبار الأب ابنته البالغة على زواجها.

                                                قوله: "غير أن في بعضها" أي في بعض الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الثانية "طعنا على مذهب أهل الآثار" وأراد بذلك من جهة حال الإسناد والمتن، فإن أهل الآثار مذهبهم في هذين الفصلين بخلاف مذهب الفقهاء؛ فإن أكثرهم يحتجون بالآثار ولا يتعرضون للإسناد ولا للمتن، فلذلك قال: "على مذهب أهل الآثار".

                                                قوله: "وأكثرها سليم من ذلك" أي وأكثر الآثار التي احتجت بها أهل المقالة الثانية سليم من الطعن على مذهب أهل الآثار، وإن كانوا قد طعنوا في بعضها.

                                                [ ص: 517 ] قوله: "وسنأتي بها" أي بالآثار والأحاديث التي رويت في هذا الباب "مع بيان عللها وبيان فساد ما يفسده أهل الآثار منها" أي من الآثار المروية "في هذا الباب إن شاء الله تعالى".

                                                قوله: "فمما رووا في ذلك" أي فمن الآثار التي روى أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه مما طعن فيه أهل الآثار: ما حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، ومحمد بن علي بن داود المعروف بابن أخت غزال، كلاهما عن الحسين بن محمد المروذي نزيل بغداد روى له الجماعة، نسبته إلى مروالروذ، يروي عن جرير بن حازم البصري روى له الجماعة، عن أيوب السختياني روى له الجماعة، عن عكرمة مولى ابن عباس روى له الجماعة مسلم مقرونا بغيره، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا حسين بن محمد، قال: ثنا جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: "أن جارية بكرا أتت النبي -عليه السلام- فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها".

                                                قوله: "فكان من طعن..إلى آخره" إشارة إلى بيان طعن أهل الآثار في الحديث المذكور.

                                                قوله: "أن قالوا" في محل النصب على أنه خبره و"أن" مصدرية. وقوله: "من هو دونه" أي دون الحافظ، وحاصل هذا الطعن في حديث ابن عباس المذكور من وجهين:

                                                أحدهما: أن جرير بن حازم رجل كثير الغلط، وقد أدخل في هذا الحديث ابن عباس فجعله متصلا، وهو مرسل منقطع، أشار إليه بقوله: "وقد رواه الحفاظ عن أيوب على غير ذلك" أي على غير ما رواه جرير بن حازم يعني رواه الحفاظ منقطعا، منهم: سفيان الثوري ، وحماد بن زيد ، وإسماعيل ابن علية؛ فإنهم رووه عن أيوب ، عن عكرمة ، عن النبي -عليه السلام-.

                                                [ ص: 518 ] أما الذي رواه سفيان ، عن أيوب ، عن عكرمة عن النبي -عليه السلام-: فأخرجه عن أحمد بن داود المكي ، عن عبد الرحمن بن عبد الوهاب البصري ، عن وكيع ، عن سفيان الثوري ، عن أيوب ، عن عكرمة: "أن النبي -عليه السلام-...." إلى آخره.

                                                وأما الذي رواه حماد بن زيد عن أيوب: فأخرجه أبو داود: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن النبي -عليه السلام- بهذا الحديث، ولم يذكر ابن عباس .

                                                قال أبو داود: وكذلك يروى مرسلا معروف.

                                                الوجه الثاني: أن جريرا ذكر أن المرأة المذكورة كانت بكرا، وإنما كانت ثيبا، وقد أشار إلى الوجهين المذكورين بقوله: "فثبت بذلك عندهم خطأ جرير في هذا الحديث من وجهين".

                                                ولما أخرج البيهقي هذا الحديث في "سننه" قال: أخطأ فيه جرير على أيوب، والمحفوظ مرسل.

                                                قال: وروي أيضا موصولا: أنا طلحة بن علي، أنا الشافعي، نا محمد بن سعيد القاضي بعسقلان، ثنا أبو سلمة المسلم بن محمد الصنعاني، ثنا عبد الملك ابن عبد الرحمن الذماري، ثنا الثوري عن هشام الدستوائي ، عن يحيى ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان".

                                                قال الدارقطني: هذا وهم والصواب عن يحيى ، عن المهاجر ، عن عكرمة مرسل، وهم فيه الذماري وليس بالقوي.

                                                [ ص: 519 ] قال البيهقي: وهو في "جامع الثوري" مرسلا، وكذا رواه عامة أصحابه عنه، وكذا رواه غير الثوري عن هشام .

                                                قلت: هذا الذي ذكره الطحاوي عنهم وسكت عن ذلك فكأنه رضي به أو لم يظفر بما يرد به عليهم، فنقول: جرير بن حازم ثقة جليل من رجال "الصحيح" وقد زاد الرفع فلا يضره إرسال من أرسله، وكيف وقد تابعه الثوري وزيد بن حبان فروياه عن أيوب كذلك مرفوعا، كذا قال الدارقطني .

                                                وأخرج رواية زيد كذلك النسائي وابن ماجه في "سننهما" من حديث معمر بن سليمان ، عن زيد ، عن أيوب .

                                                والرواية التي ذكرها البيهقي عن طلحة بن علي تشهد لهذه الرواية بالصحة. على أن في سند الرواية الذماري، وقد قال البيهقي عن الدارقطني: إنه ليس بالقوي.

                                                قلت: الذماري روى له الحاكم في "مستدركه" وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر صاحب "الكمال" عن عمرو بن علي أنه وثقه [....] هذا متصلا من طريق النسائي ، عن محمد بن داود ، عن حسين بن محمد ، عن جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ... الحديث، وحكم له بالصحة.




                                                الخدمات العلمية