الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        فذهب جمع إلى أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد ، قائم بحجج الله ، يبين للناس ما نزل إليهم .

                        قال بعضهم : ولا بد أن يكون في كل قطر من يقوم به الكفاية ; لأن الاجتهاد من فروض الكفايات .

                        قال ابن الصلاح : الذي رأيته في كلام الأئمة يشعر بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد ، قال : والظاهر أنه لا يتأتى في الفتوى . وقال بعضهم : الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب : فرض عين ، وفرض كفاية ، وندب .

                        ( فالأول ) : على حالين : اجتهاد في حق نفسه عند نزول الحادثة .

                        ( والثاني ) : اجتهاد فيما يتعين عليه الحكم فيه ، فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور ، وإلا كان على التراخي .

                        ( والثاني ) على حالين :

                        ( أحدهما ) : إذا نزلت بالمستفتي حادثة ، فاستفتى أحد العلماء ، توجه الفرض على جميعهم ، وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها ، فإن أجاب هو أو غيره سقط [ ص: 723 ] الفرض ، وإلا أثموا جميعا .

                        ( والثاني ) : أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر ، فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما ، فأيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنها .

                        ( والثالث ) : على حالين :

                        ( أحدهما ) : فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل ، يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله .

                        ( والثاني ) : أن يستفتيه قبل نزولها انتهى .

                        ولا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضا ، يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد ، ويدل على ذلك ما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله : لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة .

                        وقد حكى الزركشي في البحر عن الأكثرين : أنه يجوز خلو العصر عن المجتهد ، وبه جزم صاحب المحصول .

                        قال الرافعي : الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم .

                        قال الزركشي : ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي ، أو من قول الغزالي في الوسيط : " قد خلا العصر عن المجتهد المستقل " .

                        قال الزركشي : ونقل الاتفاق عجيب ، والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة ، وساعدهم بعض أئمتنا .

                        والحق أن الفقيه الفطن للقياس كالمجتهد في حق العامي ، لا الناقل فقط .

                        وقالت الحنابلة : لا يجوز خلو العصر عن مجتهد ، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق والزبيري ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء ، قال : ومعناه : أن الله تعالى لو أخلى زمانا من قائم بحجة ، زال التكليف ، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة ، وإذا زال [ ص: 724 ] التكليف بطلت الشريعة .

                        قال الزبيري : لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت ، ودهر وزمان ، وذلك قليل في كثير ، فأما أن يكون غير موجود ، كما قال الخصم ، فليس بصواب ; لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها ، ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بالخلق ، كما جاء في الخبر " لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس " ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار انتهى .

                        قال ابن دقيق العيد : هذا هو المختار عندنا لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان .

                        وقال في " شرح خطبة الإلمام " : والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجة ، والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح الحجة ، إلا أن يأتي أمر الله في أشراط الساعة الكبرى انتهى .

                        وما قاله الغزالي رحمه الله من أنه قد خلا العصر عن المجتهد ، قد سبقه إلى القول به القفال ، ولكنه ناقض ذلك فقال : إنه ليس بمقلد للشافعي ، وإنما وافق رأيه رأيه كما حكى ذلك عنه الزركشي ، وقال : قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد مما يقضي منه العجب ، فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم ، فقد عاصر القفال ، والغزالي ، والرازي ، والرافعي ، من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء ، والكمال جماعة منهم ، ومن كان له إلمام بعلم التاريخ ، واطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا ، بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتبره أهل العلم في الاجتهاد .

                        وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار ، بل باعتبار أن الله - عز وجل - رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأمة من كمال الفهم ، وقوة الإدراك ، والاستعداد للمعارف ، فهذه دعوى من أبطل الباطلات ، بل هي جهالة من الجهالات .

                        وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين ، وصعوبته عليهم ، وعلى [ ص: 725 ] أهل عصورهم ، فهذه أيضا دعوى باطلة ، فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين ; لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت ، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره ، والسنة المطهرة قد دونت ، وتكلم الأئمة على التفسير ( والترجيح ، والتصحيح ، والتجريح ) بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد ، وقد كان السلف الصالح ، ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر ، فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين ، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح ، وعقل سوي .

                        وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أتوا من قبل أنفسهم ، فإنهم لما عكفوا على التقليد ، واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة ، حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه ، واستصعبوا ما سهله الله على من رزقه العمل والفهم ، وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسنة .

                        ولما كان هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية ، فها نحن نوضح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ، ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد ، فمنهم ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد ثم تلميذه ابن سيد الناس ثم تلميذه زين الدين العراقي ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني [ ص: 726 ] ثم تلميذه السيوطي فهؤلاء ستة أعلام ، كل واحد منهم تلميذ من قبله ، قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها ، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة ، محيط بعلوم الاجتهاد ، إحاطة متضاعفة ، عالم بعلوم خارجة عنها .

                        ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم ، وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم ، والتعداد لبعضهم ، فضلا عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل ، وقد قال الزركشي في البحر ما لفظه " ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد وكذلك ابن دقيق العيد " انتهى .

                        وحكاية هذا الإجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الاتفاق من ذلك الشافعي والرافعي .

                        وبالجملة فتطوير البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة ، فإن أمره أوضح من كل واضح ، وليس ما يقوله من كان من أسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف ، ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال ، وما هذه بأول فاقرة جاء بها المقلدون ، ولا هي بأول مقالة باطلة قالها المقصرون .

                        ومن حصر فضل الله على بعض خلقه ، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره ، فقد تجرأ على الله - عز وجل ، ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ، ثم على عباده الذين تعبدهم الله بالكتاب والسنة .

                        ويالله العجب من مقالات هي جهالات ، وضلالات ، فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبد بالكتاب والسنة ، وأنه لم يبق إلا تقليد الرجال ، الذين هم متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حد سواء ، فإن كان التعبد بالكتاب والسنة مختصا بمن كانوا في العصور السابقة ، ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله ، من كتاب الله وسنة رسوله ; فما الدليل على هذه [ ص: 727 ] التفرقة الباطلة ، والمقالة الزائفة ، وهل النسخ إلا هذا سبحانك هذا بهتان عظيم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية