الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 740 ] اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب ، والمسائل التي الحق فيها مع واحد من المجتهدين .

                        وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين :

                        ( الفرع الأول )

                        العقليات

                        وهي على أنواع :

                        ( الأول ) : ما يكون الغلط فيه مانعا من معرفة الله ورسوله ، كما في إثبات العلم بالصانع ، والتوحيد ، والعدل .

                        قالوا : فهذه الحق فيها واحد ، فمن أصابه أصاب الحق ، ومن أخطأه فهو كافر .

                        ( النوع الثاني ) : مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار ، وما يشابه ذلك ، فالحق فيها واحد ، فمن أصابه فقد أصاب ، ومن أخطأه فقيل : يكفر .

                        ومن القائلين بذلك الشافعي ، فمن أصحابه من حمله على ظاهره ، ومنهم من حمله على كفران النعم .

                        [ ص: 741 ] ( النوع الثالث ) : إذا لم تكن المسألة دينية ، كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف ، قالوا : فليس المخطئ فيها بآثم ، ولا المصيب فيها بمأجور ، إذ هذه وما يشابهها يجري مجرى الاختلاف في كون مكة أكبر من المدينة أو أصغر منها .

                        وقد حكى ابن الحاجب في المختصر أن المصيب في العقليات واحد ، ثم حكى عن العنبري أن كل مجتهد في العقليات مصيب ، وحكى أيضا عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد ، بخلاف المعاند .

                        قال الزركشي : وأما الجاحظ فجعل الحق فيها واحدا ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم .

                        قال ابن السمعاني : وكان العنبري يقول في مثبتي القدر : هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر : هؤلاء نزهوا الله ، وقد استبشع هذا القول منه ، فإنه يقتضي تصويب اليهود ، والنصارى ، وسائر الكفار في اجتهادهم ، قال : ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة ، كالرؤية ، وخلق الأفعال ، ونحوه .

                        وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل ، كاليهود ، والنصارى ، والمجوس ; فهذا مما يقطع فيه بقول أهل الإسلام .

                        قال القاضي في مختصر التقريب : اختلفت الروايات عن العنبري ، فقال في أشهر الروايتين : إنما أصوب كل مجتهد في الدين تجمعهم الملة وأما الكفرة فلا يصوبون ، وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة قال : ونحن نتكلم معهما ، يعني العنبري ، والجاحظ ، فنقول :

                        أنتما أولا محجوجان بالإجماع قبلكما وبعدكما .

                        ثانيا : إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد ; فقد خرجتما عن حيز العقلاء ، [ ص: 742 ] وانخرطتما في سلك الأنعام ، وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف ، ونفي الحرج ، كما نقل عن الجاحظ ; فالبراهين العقلية من الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة .

                        وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول : مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن ، وغير ذلك مما يعظم خطره ، وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه .

                        وقد حكى القاضي أيضا في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني ، إمام مذهب الظاهر ، أنه قال بمثل قول العنبري .

                        وحكى قوم عن العنبري والجاحظ ، أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق ، من أهل ملتنا وغيرهم ، وقد نحا الغزالي قريبا من هذا المنحى في كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة .

                        وقال ابن دقيق العيد : ما نقل عن العنبري ، والجاحظ ، إن أراد أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر ; فباطل ، وإن أريد به أن من بذل الوسع ، ولم يقصر في الأصوليات ، يكون معذورا غير معاقب ، فهذا أقرب ; لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب ، وكلف بعد استفراغه غاية الجهد ; لزم تكليفه بما لا يطاق .

                        قال : وأما الذي حكي عنه من الإصابة في العقائد القطعية ; فباطل قطعا ، ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى .

                        وأما المخطئ في الأصول : كالمجسمة فلا شك في تأثيمه وتفسيقه وتضليله .

                        واختلف في تكفيره ، وللأشعري قولان ; قال إمام الحرمين ، وابن القشيري ، وغيرهما : وأظهر مذهبه ترك التكفير ، وهو اختيار القاضي في كتاب إكفار المتأولين .

                        وقال ابن عبد السلام : رجع ( الإمام أبو الحسن ) الأشعري عند موته عن تكفير [ ص: 743 ] أهل القبلة ; لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات .

                        قال الزركشي : وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي لا يكفر ، فقيل له : ألا تكفر من يكفرك ، فعاد إلى القول بالتكفير ، وهذا مذهب المعتزلة ، فهم يكفرون خصومهم ، ويكفر كل فريق منهم الآخر .

                        وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير ، وقالوا : إنما يكفر من جهل وجود الرب ، أو علم وجوده ، ولكن فعل فعلا ، أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر انتهى .

                        واعلم أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبة كئود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه ، ولا يحرص عليه ; لأنه مبني على شفا جرف هار ، وعلى ظلمات بعضها فوق بعض ، وغالب القول به ناشئ عن العصبية ، وبعضه ناشئ عن شبه واهية ، ليست من الحجة في شيء ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين ، فضلا عن هذا الأمر الذي هو مزلة الأقدام ، ومدحضة كثير من علماء الإسلام .

                        والحاصل : أن الكتاب والسنة ، ومذهب خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، يدفع ذلك دفعا لا شك فيه ، ولا شبهة ، فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم : إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب ، والسنة ، فإن ذلك دعوى باطلة مترتبة على شبهة داحضة ، وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام فموضعه علم الكلام .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية