الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        وهو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها ، فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أولا ، بل لا بد أن يكون مجتهدا مطلقا ، عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل ؟

                        فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ ، وعزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين ، وحكاه صاحب النكت عن أبي علي الجبائي ، وأبي عبد الله البصري ، قال ابن دقيق العيد : وهو المختار ; لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه ، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد .

                        قال الغزالي ، والرافعي : يجوز أن يكون العالم منتصبا للاجتهاد في باب دون باب .

                        وذهب آخرون إلى المنع ; لأن المسألة في نوع من الفقه ، ربما كان أصلها في نوع آخر منه .

                        احتج الأولون : بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل ، واللازم منتف ، فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب ، وكثير منهم سئل عن مسائل ، فأجاب في البعض ، وهم مجتهدون بلا خلاف . ومن ذلك ما روي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة ، فأجاب في أربع منها ، وقال في الباقي : لا أدري .

                        وأجيب : بأنه قد يترك ذلك لمانع ، أو للورع ، أو لعلمه بأن السائل متعنت ، وقد [ ص: 728 ] يحتاج بعض المسائل إلى مزيد بحث ، يشغل المجتهد عنه شاغل في الحال .

                        واحتج النافون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض ، فلا يحصل له ظن عدم المانع .

                        وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة .

                        ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها ، فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر ، وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ، ويأخذ بعضها بحجزة بعض ، ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة ، فإنها إذا تمت كان مقتدرا على الاجتهاد في جميع المسائل ، وإن احتاج بعضها إلى مزيد بحث ، وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك ، ولا يثق من نفسه لتقصيره ، ولا يثق به الغير لذلك ، فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة ( دون مسألة ) فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا ، فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله . قال الزركشي وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا عرف بابا دون باب ، أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعا ، والظاهر جريان الخلاف في الصورتين ، وبه صرح الأبياري انتهى .

                        ولا فرق عند التحقيق ( بين الصورتين ) في امتناع تجزؤ الاجتهاد ، فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى ، وعدم المانع ، وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق ، وأما من ادعى الإحاطة بما يحتاج إليه في باب دون باب ، أو في مسألة دون مسألة ; فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك ; لأنه لا يزال يجوز للغير ما قد بلغ إليه علمه ، فإن قال : قد غلب ظنه بذلك ; فهو مجازف ، وتتضح مجازفته بالبحث معه .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية