الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه السادس عشر: أن المنازع يقول: " الجوهر الفرد لا يخلو إما أن يكون ثابتا أو لا يكون" فإن كان ثابتا لم تكن قد ذكرت دليلا عقليا على نفي كونه بقدره كما اعترفت بذلك فيما تقدم في " نهايتك " في المسلك الثاني على نفي الجسم " أن المنازع إذا أصر على المطالبة بالدليل على أنه حال كونه بقدر الجوهر فطريق دفعه أن يتمسك بالوجوه التي يستدل بها على نفي الجزء الذي لا يتجزأ حتى تنقطع المطالبة"، وإذا [ ص: 229 ] لم يكن لك طريق إلا هذا فهذا الطريق باطلة إذا قدر ثبوت الجوهر الفرد، فإنه بتقدير ثبوته تكون الوجوه التي احتج بها على نفيه باطلة، وإذا لم يكن الجوهر الفرد ثابتا لم يجز أن يقال: إن الحال في الجزء الواحد هو أقل القليل، بل لم يكن للحيز الواحد إذا فسر بذلك وجود أصلا، وإذا كان كذلك فعلى التقديرين لا تكون قد ذكرت حجة على أنه لا يكون في الحيز الواحد، وإنما تعتصم في مثل ذلك بالإجماع إجماع العقلاء وإجماع المسلمين داخل في ذلك.

فيقال لك: هؤلاء المنازعون يقولون: إنه عظيم في نفسه أعظم من كل عظيم وأكبر من كل كبير وأعلى من كل عال، قد وسع كرسيه السماوات السبع والأرضين السبع، ويقولون لك: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [الزمر: 67] قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم". أو كما قال. فهذا مستند ثان نفى كونه بقدر الجوهر الفرد فإن سلمت ذلك لم يكن لك [ ص: 230 ] أن تقول: ليس فوق العرش ولا هو في نفسه كبير وعظيم، ولم يكن ما سلمتموه يستلزم أن لا يكون فوق العرش.وإن قيل: إنه في حيز واحد أو جهة واحدة. وإن لم تسلم ذلك بل زعمت أنما فوق السماوات رب ولا هناك إله أصلا، وأن محمدا لم يعرج به إلى الله تعالى بل صعد إلى علو العالم فقط، وأن رب العالمين ليس داخل العالم ولا خارجه. قالوا لك: نحن نقول إن من وصفه بهذا فقد جعله معدوما، والمعدوم أحقر من الجوهر الفرد، وإذا كان كذلك لم نسلم لك ما دمت مصرا على هذا النفي أنه أحقر من الجوهر الفرد، فإن ذلك يستلزم تسليم النقيضين، فنكون قد سلمنا أنه معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد، وذلك باطل. وإذا لم نسلم له على هذا التقدير أنه أحقر من الجوهر الفرد لم يكن له أن يحتج بالإجماع، كما تقدم نظير هذا.

وتقدم ما قرره في أول نهايته: أن الاحتجاج بمثل هذا الإجماع الذي يختلف فيه المأخذ لا يصح نظرا ولا مناظرة، فإن المناظر ليس له أن يحتج بموافقة موافق بناء على مأخذ لا يعتقد صحته، والمناظر يجيبه خصمه بأنك إن وافقتني على المأخذ وإلا منعتك الحكم على هذا التقدير، لأنه عندي تقدير غير واقع، فلا يكون له حجة بحال". ولو احتج بها في الفطرة في [ ص: 231 ] إعظام الله أن يكون كذلك. قيل له: هذه الفطرة التي فيها أن الله تعالى فوق العالم وهي تحيل أن يقال: إنه ليس فوق العالم ولا داخله ولا خارجه كما تحيل أن يقال: هو بقدر الجوهر الفرد فإن كان ما في الفطرة من هذا حقا فكذلك الآخر، وحينئذ فلا يبقى معه حجة على نفي كونه بقدر الجوهر الفرد، لا عقلية ولا سمعية، لأن السمع إما نص وإما إجماع، والسمعيات التي وصف الله فيها نفسه بأنه علي وعظيم وكبير معناها عندهم القدرة والقهر لا يعنون بها عظم قدره في نفسه فلا ينافي ما زعموه صغر المقدار، لاسيما مع ما يعتمدونه من القول بأن الملك العظيم والآدمي العظيم يكون بقدر الجوهر الفرد، لأن الحياة ولازمها لا تحل إلا في قدر ذلك كما تقدم، وإذا لم يكن لهم على ذلك حجة بطلت هذه الحجج التي ذكرها وظهر عجزهم عن تنزيه الله عن صغر القدر، كما عجزوا عن تنزيه الله تعالى أن يكون فيه نقص فلا يقدرون أن ينزهوه على أصولهم العقلية عن نقص ولا عن صغر.

التالي السابق


الخدمات العلمية