الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 36 ] وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن يقال: هذا الذي ذكرته وارد في جميع الأمور العالية من العرش والكرسي والسموات السبع وما فيهن من الجنة والملائكة والكواكب والشمس والقمر ومن الرياح وغير ذلك. فإن هذه الأجسام مستديرة كما ذكرت ومعلوم أنها فوق الأرض حقيقة، وإن كان على مقتضى ما ذكرته تكون هذه الأمور دائما تحت قوم كما تكون فوق آخرين، وتكون موصوفة بالتحت بالنسبة إلى بعض الناس، وهي التحتية التقديرية الإضافية، وإن كانت موصوفة بالعلو الحقيقي الثابت كما أنها أيضا عالية بالعلو الإضافي الوجودي دون الإضافي التقديري وإذا كان الأمر كذلك ولم يكن في ذلك من الإحالة إلى ما هو مثلما في هذا ودونه: لم يكن في ذلك محذورا فإن المقصود أن الله فوق السماوات، وهذا ثابت على كل تقدير.

وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو أن يقال: هذا الذي ذكرته من هذا الوجه لا يدفع: فإنه كما أنه معلوم بالحساب والعقل فإنه ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى: هو الأول والآخر والظاهر والباطن [الحديد: 3] وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي [ ص: 37 ] هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر " فأخبر أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء، فهذا خبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره وعلوه على الأشياء، وأنه ليس دونه شيء فلا يكون أعظم بطونا منه حيث بطن من الجهة الأخرى من العباد جمع فيها لفظ البطون ولفظ الدون- وليس هو لفظ الدون بقوله: " وأنت الباطن فليس دونك شيء " فعلم أن بطونه أوجب أن لا يكون شيء دونه فلا شيء دونه باعتبار بطونه. والبطون يكون باعتبار الجهة التي ليست ظاهرة.

ولهذا لم يقل: وأنت السافل، ولهذا لم يجئ هذا [ ص: 38 ] الاسم الباطن في قوله: " وأنت الباطن فليس دونك شيء " إلا مقرونا بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره وعلوه، فلا يكون شيء فوقه؛ لأن مجموع الاسمين يدلان على الإحاطة والسعة، وأنه الظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه.

ولم يقل أنت السافل، ولا وصف الله قط بالسفول لا حقيقة ولا مجازا، بل قال: " ليس دونك شيء " فأخبر أنه لا يكون شيء دونه هناك، كما جاء في الأثر الذي ذكره مالك في (الموطأ) أنه يقال: " حسبنا الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مرمى " فلا مرمى وراءه ولا شيء دونه في معنى اسمه الباطن، ليبين أنه ليس يخرج عنه من الوجهين جميعا، وذلك لأن ما في هذا المعنى من نفي الجهة شيء دونه هو بالنسبة والإضافة التقديرية، وإلا ففي الحقيقة هو عال أيضا من هناك، [ ص: 39 ] والأشياء كلها تحته.

وهذا كما أن الضار والمانع والخافض لا تذكر إلا مقرونة بالنافع المعطي الرافع لأن ما فعله من الضرر والمنع والخفض فيه حكمة بالغة أوجب أن تكون فيه رحمة واسعة ونعمة سابغة فليس في الحقيقة ضررا عاما وإن كان فيه ضرر، فالضرر الإضافي بالنسبة إلى بعض المخلوقات يشبه ما في البطون من كونه ليس تحته شيء، وأنه لو أدلى بحبل لهبط عليه، فإن الهبوط والتحتية أمر إضافي بالنسبة إلى تقدير حال لبعض المخلوقات: هذا في قدره وهذا في فعله.

التالي السابق


الخدمات العلمية