الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) ، وإذا قضى القاضي بحد القذف على القاذف ثم عفى المقذوف عنه بعوض أو بغير عوض لم يسقط الحد بعفوه عندنا وذكر ابن عمران عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى أنه يسقط ، وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى .

وأصل المسألة أن المغلب في حد القذف عندنا حق الله تعالى ، وما فيه من حق العبد فهو في حكم التبع ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى المغلب حق العبد وحجته لإثبات هذا الأصل أن سبب الوجوب التناول من عرضه ، وعرضه حقه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم { أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم إذا أصبح قال : اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك } ، وإنما يستحق المدح على التصدق بما هو من حقه والمقصود دفع الشين عن المقذوف وذلك حقه ، ومن حيث الحكم حد القذف يستوفى بالبينة بعد تقادم العهد ، ولا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار ، وذلك دليل ظاهر على أنه حق العبد ولذلك لا يستوفى إلا بخصومته ، وإنما يستوفى بخصومته ما هو حقه بخلاف السرقة فخصومته هناك بالمال دون الحد ، ويقام هذا الحد على المستأمن بالاتفاق ، وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد إلا أن من له لا يتمكن من الاستيفاء بنفسه ; لأن ألم الجلدات غير معلوم المقدار ، فإذا فوض إلى من له ربما لا يقف على الحد لغيظه فجعل الاستيفاء إلى الإمام مراعاة للنظر من الجانبين بخلاف القصاص ، فإنه معلوم بحده ، فإذا جاوز من له الحق ذلك الحد يعلم ذلك فيمنع منه .

( وحجتنا ) في ذلك ، وهو أن هذا الحد يعتبر فيه الإحصان فيكون حقا لله تعالى كالرجم وتأثير هذا الكلام ; لأن الحدود زواجر ، والزواجر مشروعة حقا لله تعالى ، فأما ما يكون حقا للعبد فهو في الأصل جائز فما أوجب من العقوبات حقا للعبد وجب باسم القصاص الذي ينبئ عن المساواة ليكون إشارة إلى معنى الجبر ، وما أوجب باسم الحد فهو حق الله تعالى ، وفي الاسم إشارة إلى معنى الزجر والدليل عليه أن في حقوق العباد يعتبر المماثلة وبه ورد النص حيث قال تعالى { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، ولا مناسبة بين نسبة الزنا وبين ثمانين جلدة لا صورة ولا معنى ، والدليل عليه وهو أن الحد مشروع [ ص: 110 ] لتعفية أثر الزنا وحرمة إشاعة الفاحشة من حقوق الله تعالى فكان هذا نظير الواجب بمباشرة الزنا من حيث إن كل واحد منهما مشروع لإبقاء الستر وتعفية أثر الزنا واعتبار الإحصان لمعنى النعمة ، وذلك فيما هو من حق الله تعالى ، وما ذكره الخصم لا ينفي معنى حق الله تعالى ; لأن في عرضه حقه وحق الله تعالى ، وذلك في دفع عار الزنا عنه ; لأن في إبقاء ستر العفة معنى حق الله تعالى ، فإذا دل بعض الأدلة على أنه محض حق الله تعالى وبعض الأدلة على اجتماع الحقين فيه ، قلنا بأن المغلب حق الله تعالى مع اعتبار حق العبد فيه أيضا ليكون عملا بالأدلة كلها والدليل عليه أن الاستيفاء إلى الإمام ، والإمام إنما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى .

وأما ما كان حقا للعبد فاستيفاؤه إليه ، ولا معتبر بتوهم التفاوت ، فإن للزوج أن يعزر زوجته ، وإن كان ذلك يوهم التفاوت لكن التعزير لما كان للزوج حقا له لا ينظر إلى توهم التفاوت من هذا الوجه ، وهذا ; لأن هذه المبالغة كما تتوهم من صاحب الحق تتوهم من الجلاد ، ويمنع صاحب الحق من ذلك إذا ظهر أثره ، كما يمنع الجلاد منه مع أن توهم الزيادة لا يمنع صاحب الحق عن استيفاء حقه كتوهم السراية في القصاص ، والدليل عليه أنه يتنصف هذا الحد بالرق ، وإنما يتنصف بالرق لانعدام نعمة الحرية في حق العبد ، لا لأن بدنه دون بدن الحر في احتمال الضرب فاحتمال بدن العبد للمهانة والضرب أكثر ، وإنما يتكامل بتكامل النعم ما كان حقا لله تعالى ; لأن شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة حق للمنعم والدليل عليه أن ما كان متمما لهذا الحد ، وهو سقوط الشهادة كان حقا لله تعالى ، فكذلك أصل الحد ، ولكن قد بينا أن فيه معنى حق العبد أيضا ، فلهذا تعتبر خصومته وطلبه ، ولهذا لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار ; لأن الخصم مصدق له في الإقرار مكذب له في الرجوع بخلاف ما كان محض حق الله تعالى ، فإن هناك ليس من يكذبه ، ولهذا يقام بحجة البينة بعد التقادم لعدم تمكن الشهود من أداء الشهادة قبل طلب المدعي فلا يصيرون متهمين بالضغينة ، ولهذا يقام على المستأمن ; لأنه لما كان للعبد حق الخصومة والطلب به والمستأمن ملتزم لحقوق العباد فيقام عليه إذا ثبت هذا الأصل فنقول بعفوه لا يسقط عندنا ، ولأنه إنما يملك إسقاط ما يتمحض حقا له فأما حق الله تعالى لا يملك إسقاطه .

وإن كان للعبد فيه حق كالعدة ، فإنها لا تسقط بإسقاط الزوج لما فيها من حق الله تعالى ، وقد روي مثل مذهبنا عن علي رضي الله عنه ، ولكن الحد ، وإن لم يسقط بعفوه ، فإذا ذهب العافي لا يكون للإمام أن يستوفي لما بينا أن الاستيفاء عند طلبه ، وقد ترك [ ص: 111 ] الطلب إلا أنه إذا عاد فطلب فحينئذ يقيم الحد ; لأن عفوه كان لغوا فكأنه لم يخاصم إلى الآن ، ولو صدقه فيما قال أو قال : شهودي شهدوا بالباطل فليس له أن يخاصم في شيء ; لأنه إذا أكذب شهوده تبطل شهادتهم كالمسروق منه إذا أكذب شهوده ، وإذا صدقه ، فقد صار مقرا بالزنا وانعدم به إحصانه وقذف غير المحصن لا يوجب الحد فبإقراره ينعدم السبب الموجب للحد لا أنه يسقط فأما بعفوه لا ينعدم السبب ، وما أسقطه حق الشرع فكان إسقاطه لغوا لهذا

التالي السابق


الخدمات العلمية