الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) والسارق تقطع في المرة الأولى يده اليمنى فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى فإن سرق بعد ذلك لم يقطع عندنا استحسانا ، ولكن يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى في المرة الثالثة تقطع يده اليسرى ، وفي المرة الرابعة تقطع رجله اليمنى ثم يحبس بعد ذلك ، وعند أصحاب الظواهر في المرة الخامسة يقتل ، وحجته قوله تبارك وتعالى { فاقطعوا أيديهما } واسم اليد يتناول اليسرى ، كما يتناول اليمنى بدليل آية الطهارة ، ولا معنى لاستدلالكم بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وهو قوله تعالى { فاقطعوا أيديهما } ; لأن بهذه القراءة ينبغي أن تقطع رجله اليمنى ثم عندكم إذا سرق وهو مقطوع اليد اليسرى أو مقطوع الإبهام من اليد اليسرى لم تقطع يده اليمنى ، وبالقراءتين وبالإجماع صار قطع اليمنى مستحقا من السارق فلا يجوز تركه بالرأي ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن [ ص: 167 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا سرق السارق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه إلى أن قال في الخامسة فإن عاد فاقتلوه } ، وفي رواية مفسرا في المرة الأولى ذكر { اليد اليمنى ، وفي الثانية الرجل اليسرى ، وفي الثالثة اليد اليسرى ، وفي الرابعة الرجل اليمنى } وروى المعلى { أنه قطع من السارق هكذا } ، وقد بينا حديث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والمعنى فيه أن اليد اليسرى يد باطشة فتقطع في السرقة كاليمنى ، وهذا ; لأن سرقته بالبطش والمشي يتأتى فقطعت هذه الأعضاء للزجر لتفويت ما به تتأتى السرقة ، وذلك موجود في اليد اليسرى والرجل اليمنى وربما يقولون المتناول للسرقة متناول فيها كاليد اليمنى والرجل اليسرى ، وكل عقوبة تتعلق باليد اليمنى تتعلق باليد اليسرى كالقصاص والدليل عليه أنه إذا أخطأ الحداد فقطع اليسرى مكان اليمنى لم يضمن وكان مستوفيا للحد حتى لا يضمن السارق المسروق واستيفاء الحد من غير محله لا يتحقق ، فتبين أن اليسرى محل إلا أنه لا يصار إليها في المرة الثانية مراعاة للترتيب المشروع وكان المعنى في شرع هذا الترتيب أن يكون الحد زاجرا له بالتنقيص له من بطشه ومشيه فإن لم يحصل الانزجار به فالزجر بالتفويت يتحقق به الانزجار .

( وحجتنا ) فيه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فاقطعوا إيمانهما قال إبراهيم النخعي إن من قراءتنا والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما وهذه القراءة من القراءة المشهورة بمنزلة المقيد من المطلق فيصير كأنه قال : فاقطعوا أيمانهما من الأيدي فلا يتناول الرجل أصلا ولا يتناول اليسرى ، والدليل عليه أنه في المرة الثانية لا تقطع يده اليسرى ومع بقاء المنصوص لا يجوز العدول إلى غيره ، فلو كان النص متناولا لليد اليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد والأيدي ، وإن ذكرت بلفظ الجمع فالأصل أن ما يوجد من خلق الإنسان تذكر تثنيته بعبارة الجمع ، قال الله سبحانه وتعالى { ، فقد صغت قلوبكما } يقال : ملئت بطونهما ، ولأن الجمع المضاف إلى الجماعة يتناول الفرد من كل واحد يقال ركب القوم دوابهم فيصير معنى الآية فاقطعوا يدا من كل سارق وسارقة .

وكان ينبغي باعتبار هذا الظاهر أن لا يقطع الرجل اليسرى منهما ، ولكن ثبت ذلك بدليل الإجماع ، ولا يجوز الاعتماد على الآثار المروية ، فقد قال الطحاوي تتبعنا هذه الآثار فلم نجد لشيء منها أصلا ، ثم يحتمل أنه كان هذا في الابتداء ، فقد كان في الحدود تغليظا في الابتداء ، ألا ترى أنه قطع الأيدي والأرجل من العرنيين وسمل أعينهم ثم انتسخ ذلك باستقرار الحدود ؟ وقيل : كان ذلك الرجل مرتدا على ما قال جابر رضي الله عنه في حديثه { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 168 ] بسارق فقال : اقتلوه ، فقيل : إنما سرق يا رسول الله ، فقال : اقطعوه ثم ذكر هكذا في كل مرة إلى أن قال في المرة الخامسة : ألم أقل لكم اقتلوه ؟ } فقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي وجوب القتل عليه ولما خاف أن يظن ظان أن موجب السرقة القتل أمر بقطعه حتى تبين لهم ذلك في المرة الخامسة فأمر بقتله ، فلما كان مستوجبا للقتل يباح قطع الأعضاء منه .

وقد بينا أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه المسألة اختلافا ظاهرا واختلافهم يورث شبهة ، ثم أخذنا بقول علي رضي الله عنه ; لأنه حاجهم بالمعنى حيث قال إني لأستحيي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ورجلا يمشي عليها ، وفي هذا بيان أن القطع إنما شرع زاجرا لا متلفا ، وفي استيفاء الأعضاء الأربعة إتلاف حكما أو شبهة الإتلاف ، الشبهة تعمل عمل الإتلاف فيما يندرئ بالشبهات ، وبيان الوصف أن الإمام مأمور بالتحرز عن الإتلاف عند إقامة الحد بحسب الإمكان ، ألا ترى أنه لا يقيم في الحر الشديد والبرد الشديد ولا في حالة المرض كي لا يؤدي إلى الإتلاف ؟ وأنه مأمور بالحسم بعد القطع كي لا يؤدي إلى الإتلاف ، وأنه يقطع في المرة الثانية الرجل اليسرى واليد إلى اليد أقرب ، ألا ترى أن في باب الطهارة لا يتحول إلى الرجل إلا بعد الفراغ من اليدين .

وإنما شرع الترتيب هكذا للتحرز عن الإتلاف الحكمي فدل أنه شرع زاجرا لا متلفا ، وفي قطع الأعضاء الأربعة إتلاف للشخص حكما ، فإن فيه تفويت منفعة الجنس على الكمال ، وبقاء الشخص حكما ببقاء منافعه ، فلهذا يتعلق بقطع اليدين من العبد كل قيمة النفس ، ولهذا لا يجوز إعتاق مقطوع اليدين في الكفارة ، فعرفنا أنه استهلاك حكما ، وفيه شبهة الإتلاف والشبهة كالحقيقة فيما يندرئ بالشبهات ، وهذا بخلاف القصاص فالمستحق هناك اعتبار المساواة دون التحرز عن الإتلاف ، ألا ترى أن الإتلاف الحقيقي يستحق به إذا كان المساواة فيه بخلاف ما نحن فيه ، فأما الحداد إنما لا يضمن إذا قطع اليسرى ; لأنه عوضه من جنس ما فوت عليه ما هو خير له منه والإتلاف بعوض لا يكون سببا لوجوب الضمان ، وإنما أسقطنا ضمان المسروق لتحقيق معنى التعويض ، ولأن الحداد مجتهد فاعتمد ظاهر النص فيما صنع فنفذ اجتهاده ، ولم يكن ضامنا .

وهذا هو الجواب عما قاله أنه إذا كان مقطوع اليد اليسرى في الابتداء عندكم لا تقطع يده اليمنى قلنا اليد اليمنى محل بالنص ، ولكن للاستيفاء شرط ، وهو أن لا يكون على وجه يفوت منفعة الجنس ، وقد انعدم هذا الشرط إذا كان [ ص: 169 ] مقطوع اليد اليسرى فلانعدام الشرط لا تقطع اليمنى في هذه الحالة ، كما إذا كان مريضا لا تقطع يده اليمنى مع وجود المحل لانعدام الشرط فربما ينضم ألم القطع إلى ألم المرض فيؤدي إلى الإتلاف ، وكذلك في الحر الشديد والبرد الشديد فهذا مثله

التالي السابق


الخدمات العلمية