الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد فإن كان بحيث لا يسمع صوته لا يحنث ، وإن كان بحيث يسمع صوته فهو حانث ; لأنه يكون مكلما فلانا بإيقاع صوته في أذنه فإذا كان من البعد بحيث لا يسمع لم يوجد ذلك ، وإذا كان بحيث يسمع فقد أوقع صوته في إذنه وإن لم يفهم لتغافله عنه واشتغاله بغيره فيحنث ، ألا ترى أن الأول يسمى هاذيا والثاني يسمى مناديا له ؟ وكذلك لو ناداه وهو نائم فأيقظه حنث وهذا ظاهر وقع في بعض نسخ الأصل فناداه أو أيقظه وهذا إشارة إلى أنه وإن لم ينتبه بندائه فهو حانث ; لأنه أوقع صوته في أذنه ولكنه لم يفهم لمانع ، والأظهر أنه لا يحنث ; لأن النائم كالغائب ، وإن لم ينتبه كان بمنزلة ما لو ناداه من بعيد بحيث لا يسمع صوته فلا يكون حانثا ، وإذا انتبه فقد علمنا أنه أسمعه صوته فيكون مكلما له ، وقيل : هو على الخلاف عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يحنث ; لأنه يجعل النائم كالمنتبه وعندهما لا يحنث ، بيانه فيمن رمى سهما إلى صيد فوقع عند نائم حيا ثم لم يدرك ذكاته حتى مات على ما نبينه في كتاب الصيد .

وإن مر على قوم فسلم عليهم وهو فيهم حنث ; لأنه مخاطب كل واحد منهم بسلامه ، إلا أن ينوي القوم دونه فيدين فيما بينه وبين الله تعالى ; لأنه لا يكون مكلما له إذا قصد بالخطاب غيره ولكنه لا يدين [ ص: 23 ] في القضاء ; لأنه في الظاهر مخاطب لهم .

وإن كتب إليه أو أرسل لم يحنث لما بينا أن الكلام لا يكون إلا مشافهة ، ألا ترى أن أحدا منا لا يستجيز أن يقول : كلمني الله وقد أتانا كتابه ورسوله ؟ وإنما يقال : كلم الله موسى تكليما ; لأنه أسمعه كلامه بلا واسطة ، وكذلك لو أومى أو أشار لم يحنث ; لأن الكلام ما لا يتحقق من الأخرس والإيماء والإشارة يتحقق منه فلا يكون كلاما وذكر هشام عن محمد رحمهما الله تعالى قال : سألني هارون عمن حلف لا يكتب إلى فلان فأمر أن يكتب إليه بإيماء أو إشارة هل يحنث فقلت : نعم إذا كان مثلك يا أمير المؤمنين وهذا صحيح ; لأن السلطان لا يكتب بنفسه عادة إنما يأمر به غيره ومن عادتهم الأمر بالإيماء والإشارة ، وعن ابن سماعة قال : سألت محمدا عمن حلف لا يقرأ كتابا لفلان فنظر فيه حتى فهمه ولم يقرأه فقال : سأل هارون أبا يوسف رحمه الله تعالى عن هذا وكان قد ابتلي بشيء منه فقال : لا يحنث وأنا بريء من ذلك ، ثم ندم وقال أما أنا فلا أقول فيه شيئا ، وذكر هشام وابن رستم عن محمد رحمه الله تعالى أنه يحنث ; لأن المقصود الوقوف على ما فيه لا عين القراءة ، وفي الأيمان يعتبر المقصود وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن اللفظ مراعى ولفظه القراءة والنظر والتفكر ليفهم لا يكون قراءة ، ألا ترى أنه لا يتأدى به فرض القراءة في الصلاة ؟

وإن قال : لا أكلم مولاك وله موليان أعلى وأسفل ولا نية له حنث بأيهما كلم ، وكذلك لو قال : لا أكلم جدك وله جدان من قبل أبيه وأمه ; لأن هذا اسم مشترك والأسماء المشتركة في موضع النفي تعم ; لأن معنى النفي لا يتحقق بدون التعميم وهو بمنزلة النكرة تعم في موضع النفي دون الإثبات وهذا إشارة إلى الفرق بين هذا وبين الوصية لمولاه وقد بينا تمام هذا الفرق في الجامع .

التالي السابق


الخدمات العلمية