الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المناجاة والدعاء

يحتاج الإنسان إلى مناجاة الله تعالى لإذكاء الشعور برحمته وعظمته وعنايته، وإخلاص التوجه إليه بالدعاء والاستغفار،

وفي هـذا يقول الله تعالى: ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) (غافر:60)

جاء في تفسير ابن كثير أن هـذا من فضله تعالى وكرمه، حيث إنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة



[1] ،

ويقول الله تعالى: ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هـذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ) (الأنعام:63-64)

وفي تفسير هـذه الآية يذكر سيد قطب : أنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق.. وظلمات البر والبحر كثيرة، فالمتاهة ظلام، والخطر ظلام، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب، وحيثما وقع الناس في ظلمة لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين



[2] .. ويذكر سيد طنطاوي أن لفظ الآية يدل على أنه عند حصول الشدائد يأتي الإنسان بأمور:

أحدها: الدعاء.

وثانيها: التضرع.

وثالثها: الإخلاص بالقلب وهو المراد بقوله (خفية) .

ورابعها: الالتزام بالشكر. والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع الأسـباب الموجبة للخوف الشـديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا؛ لأن الإنسان في هـذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله وينقطع رجاؤه عمن سواه.



[3] [ ص: 100 ]

ومن خلال هـذه المعطيات يمكن لنا أن نعتبر الدعاء والمناجاة لونا من ألوان الحوار مع الذات، حيث إن دعاء الإنسان نابع من حسن الظن بالله تعالى والثقة باستجابته،

وفي ذلك يقول الله تعالى: ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) (الأعراف:55)

وقد جاء في تفسير القرطبي : أن هـذا أمر من الله بالدعاء، وتعبد به، ثم قرن به صفات تحسن معه وهي الخشوع والاستكانة والتضرع ومعنى خفية : أي سرا في النفس ليبعد عن الرياء، وبذلك أثنى على نبيه زكريا عليه السلام إذ قال مخبرا عنه:

( إذ نادى ربه نداء خفيا ) (مريم:3) ،

ونحوه ( قول النبي صلى الله عليه وسلم : خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي )



[4] والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجرا من الجهر، قال الحسن بن أبي الحسن: لقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت إن هـو إلا الهمس بينهم وبين ربهم،

وذلك أن الله تعالى يقول: ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) (الأعراف:55) ، وذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) (مريم:3) .





[5] [ ص: 101 ] وقد ثبت ذلك أيضا في أحاديث قدسية يرويها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: ( يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هـرولة )



[6] وفي هـذا دليل على أن الدعاء حوار تعبدي نابع من ذات الإنسان وداخله، ذلك أن مبررات الدعاء ودوافعه ناتجة مما يلي:

1 - حالة الخوف من المجهول.

2 - حالة الشدة والكرب.

3 - حالة الطمع في الثواب والرزق.

4 - حالة الضعف الإنساني.

وفي جميع هـذه الحالات يشعر الإنسان بالحاجة إلى مراجعة نفسه، فيعمل على الدخـول معها في حوار يمـكن أن نطلق عليه حوار الذات، أو الحوار مع الذات بحيث تكون الخلجات الداخلية والأحاسيس الذاتية دافعا أساسيا لتكوين ذلك الحوار الذي ينتهي بالنتيجة إلى طلب العون والمساعدة والنجدة من قوة خارقة فوق قوة البشر تعينه على مساعدته وخروجه من المأزق الذي يقع فيه.

ومما يؤكد هـذا المعنى أن الدعاء والمناجاة يذكي في نفس صاحبه جملة من المفاهيم التي تعمل على طمأنينته واستقراره، وهذه المفاهيم هـي: [ ص: 102 ] 1 - إعداد النفوس من خلال إيقاظ الإيمان فيها، وإشعارها بعظمة معانيه وما يتطلبه من عبادة وصبر.

2 - الاستعانة به على مواقف الشدة والكرب من خلال الصلة بالله تعالى ومناجاته وعبادته، والقيام بها كلما حزبهم أمر أو أصابتهم مصيبة.

3 - الوعد المحتم من الله تعالى للصابرين بالتأييد والتثبيت، وعدا يؤنسهم ويشد عضدهم ويمدهم بطاقات تجدد عزائمهم وتزيدهم قوة أمام الشدائد.

وفي هـذا يقول السمرقندي : يستحب للإنسان أن يدعو الله تعالى في كل وقت ويرفع إليه جميع حوائجه، فإن ذلك علامة العبودية، وإن أحب العباد إلى الله تعالى من يسأله، وأبغض العباد إلى الله تعالى من استغنى عنه، وأحب العباد إلى الناس من استغنى عنهم ولم يسألهم شيئا، وأبغض العباد إلى الناس من يسألهم، وفي هـذا يقول الشاعر:

لا تسـألن بني آدم حـاجة وسـل الذي أبوابه لا تحجب     الله يغضب إن تركت سؤاله
وبني آدم حين يسأل يغضب [7]

إن كل هـذه المفاهيم والمعطيات التي أشرنا إليها تثبت بوضوح أن الدعاء والمناجاة يعدان بحق من أبرز أشكال حوار الإنسان مع ذاته، اعتمادا على كونها صادرة من خلجات النفوس وأحاسيس الذات. [ ص: 103 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية