الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الخاتمة

في نهاية هـذه الدراسة عن الحوار مع الذات والحوار مع (الآخر) أمكننا التوصل إلى النتائج التالية:

1- الحوار: أسلوب يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يـراه ويقتنع به، ويراجع الطرف (الآخر) في منطقه وفكره، قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره، وبهذا فإن كل واحد من المشتركين في الحوار لا يقتصر على عرض الأفكار القديمة التي يؤمن بها وإنما يقوم بتوليد الأفكار في ذهنه، ويعمد إلى توضيح المعاني المتولدة من خلال عرض الفكرة وتأطيرها وتقديمها بأسلوب علمي مقنع للطرف (الآخر) بحيث يظل العقل واعيا طوال فترة المحاورة ليستطيع إصدار الحكم عليها، سلبا أو إيجابا.

2- إن الواجب على من يتصدى للحوار أن يكون على بينة من الموضوع الذي يحاور فيه والقضية التي يجري النقاش فيها، حتى لا يكون بعيدا عن الضوابط المعرفية والموضوعية في عملية التحاور، كما أنه ينبغي عليه أن يتزود بالثقافة العامة التي تجعله قويا في حجته أمام خصومه من خلال إحاطته بعناصر القضية التي يتحاور فيها، وعليه أيضا أن يكون ملما بالثقافة المضادة التي يملكها الطرف (الآخر) ليسهل عليه الوقوف على نقاط الضعف والقوة عند خصمه، وليستطيع الموازنة والمفاضلة بين الفكرتين بمنطق العقل والعلم والدليل.

3- إن مقومات الحـوار تتطلب توفر أركانه متمثلة بطرفي الحوار، وبالقضية التي يجرى الحوار بشأنها، كما أن مقومات الحـوار تتطلب جملة من القواعد والأسس التي تتعلق بالعملية الحوارية من خلال اعتمادها على العقل والمنطق، وعدم التناقض في المقدمات والأدلة، وإنصاف الخصم [ ص: 172 ] وحمايته، وتحديد الغاية والهدف، وتوفير الأجواء الهادئة والمناسبة للتفكير السـليم، وإعداد خطة علمية مبرمجة للشـكل والمضمون، وبهذا نضمن حوارا علميا ومنطقيا يعتمد الحجة والدليل، ويقدم الفكرة بعقلية مرنة وأسلوب واضح بعيدا عن الأهواء والشهوات.

4 - إذا أردنا للحوار أن يبقى عذبا رقيق ا، بعيدا عن التنكيل والمهاترة، فلا بد أن يرتبط بمجموعة من الآداب الفاضلة والأخلاق النبيلة من أجل أن يبقى الفكر متقدا والعطاء موصول ا، وأبرز تلك الآداب عفة اللسـان والقـلم، وحسـن الصمت والإصغاء، والتواضع من قبل الطرفين، واحترام شخصية المحاور، وأن يصطبغ الحوار بالهدوء والروية والمودة والاحترام.

5 - إن من أقبح الصفات أن يتنزل العلماء في حوارهم إلى جارح اللفظ وسيئ العبارة، معللين ذلك بضـيق الصدر ونفاذ الصبـر، فقد ( قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين.. قال: إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة )



[1] ، كما روي ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )



[2] .

والمتتبع للحوارات التي يزخر بها تراثنا يدرك الأدب الرائع بين المتحاورين في أدق قضايا الإسلام وأحكامه، ويطلع على النماذج المشرقة التي حواها ذلك التراث الفكري والمعرفي، ولعل أبرز دليل على ذلك الحوار الرائع الذي جرى بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول توزيع الأراضي على المقاتلين، فقد كان موضوع الحوار منصبا على تفسير آيات [ ص: 173 ] عديدة من القرآن الكريم، ومع ذلك لم يشتد عمر في كلمة، ولم يعنف أحدا في عبارة، وإنما تبادل الجميع الرأي بالرأي والحجة بالحجة حتى اقتنع الجميع برأيه وقالوا : نعم ما قلت وما رأيت



[3] .

6 - يعد الحوار مع الذات أحد نوعي الحوار العلمي الذي يذكي في نفس المحاور العمل على مراجعة الأفكار، وتصحيح المواقف، من خلال الاعتماد على خلجات النفوس وأحاسيسها الداخلية، الأمر الذي يؤدي بالنتيجة إلى رقابة الإنسان على نفسه وأفكاره من جهة، أو من خلال محاورة الإنسان لبني جنسه الذين يلتقون معه في قدر كبير من المصالح المشتركة، الأمر الذي يعمل على تفعيل النقد الذاتي البناء مما يصح أن يطلق عليه «حوار الأنا» أو «حوار الذات» ليكون هـذا النوع من الحوار فاتحا لآفاق واسعة من الحوار مع (الآخر) ذلك أنه «إن لم تستطع محاورة نفسك فإنك لا تستطيع محاورة الآخرين»



[4] .

7 - إن المتتبع لوضع العالم الإسلامي اليوم وما يمر به من أحداث عصيبة ومتنوعة يجد أن أمام أبنائه مهاما كبيرة لبناء الذات وتصحيح المواقف وازدهار الحياة، ولذلك فهو مدعو الآن أكثر من أي وقت آخر إلى أن يتعامل مع تلك الأحداث بعقلية مرنة وتفكير ناضج يستطيع من خلالها الانفتاح على آفاق العصر ومعطياته المتجددة، والدخول في حوارات جدية وهادفة مع جهات عديدة وعلى مستويات متنوعة ليثبت جدارته وأهليته [ ص: 174 ] للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية تسود فيها قيم الخير والحق والفضيلة ويبرز فيها مبدأ التعاون والتسامح.

8 - إن أطراف الحوار حول قضايا الإسلام وأحكامه يجب عليهم أن يدركوا أن وحدة «الحقيقة» لا تنفي تعدد زواياها واختلاف العقول في تفسيرها، ومن هـنا سجل التاريخ اختلاف الصحابة في أمور عديدة وردت فيها نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، كما سجل التاريخ اختلاف التابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب من بعدهم في الكثير من المسائل الفقهية دون نزاع بينهم أوإيغار للصدور أو جرح للكرامة، فالقاعدة عندهم: «أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية».

9 - إن الملاحظ على أتباع المذاهب والفرق الإسـلامية في هـذه الأيام أنهم يتعاملون بسلبية، بعضهم مع بعضهم الآخر، وهذا لا شك موقف انهزامي لا يحل مشكلة ولا يوصل إلى نتيجة ولا يحقق هـدف ا، ولذلك فإننا نوجه دعوة مخلصة إلى كل مسلم أيا كان مذهبه وإلى أي مدرسة فقهية ينتمي أن يوطن نفسه للحوار والمناقشة مع الأطراف الأخرى لنـبدأ معا رحلة «الحوار مع الذات» فالاخـتلاف في الرأي لا يفسـد للود قضية، ومن لا يستطيع محاورة نفسه لا يستطيع أن يحاور الآخرين، ولتكن قاعدة الحوار فيما بينهم: «مذهبنا راجح يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب» وليحيا الجميع في ظل القاعدة الذهبية للاجتهاد الإسلامي التي روي مضمونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر )



[5] . [ ص: 175 ] 10- إن نظرة متفحصة وهادئة لواقع العلاقة بين الإسـلام والعروبة تثبت أن الخطر على الإسلام لا يتأتى من العروبة ولا من دعاتها المستنيرين، ولكنه يأتي من أعداء العروبة ومن دعاتها الذين لم يعرفوا أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه فجحدوا فضـله على العرب، كما أن الخطر على العروبة لا يأتي من الإسلام ولا من المسلمين المستنيرين، وإنما يأتي من الذين يحاولون تشويه الإسلام والعروبة على السواء، ويسعون لتعميق الخلافات بين الأخوة بداعي الخوف والحذر، وكذلك يأتي من بعض الجهلة الذين لم يصلوا إلى اكتشاف العلاقة التكاملية بين الإسلام والعروبة، ومن هـنا فإننا نقدم دعوة مخلصة إلى الطرفين، فليقبل دعاة القومية والعروبة الذين لايعرفون من الإسلام سوى اسمه إلى هـذا الدين يتدارسونه ويتعرفون عليه، وليقبل دعاة الإسلام على العروبة يتدارسونها ويتعرفون عليها. وعندها لا يبقى في ميدان الجدل والخصومة في معركة العلاقة بين الإسلام والعروبة سوى الأعداء الحقيقيين والجهلة المتعصبين.

وبناء على هـذه المفاهيم السابقة يتقرر أن المسلم الحق هـو الوطني المخلص وهو القومي المناضل، وهو العالمي الأصيل، وقد أثبت التاريخ المعاصر أن أبطال الوطنية في بلادنا العربية والإسلامية كانوا إسلاميين أمثال الأمير عبد القادر في الجزائر ، وأحمد عرابي في مصر ، وعمر المختار في ليبيا ، وعبد الكريم الخطابي في المغرب ، وأمين الحسيني في فلسطين ، والشيخ ضاري المحمود في العراق ، ومحمد ناصر في أندونيسيا ، وأبو الكلام آزاد في الهند ، وأبو الأعلى المودودي في باكستان ، وغيرهم الكثير مما يثبت أنه لا يوجد تقاطع كبير بين الخصوصية القومية أو الوطنية وبين الالتقاء تحت مظلة الإسلام باعتباره الوطن الأكبر لأبناء الأمة. [ ص: 176 ] 11ـ يمكن تحديد برنامج الحوار بين الحكام والقادة من جهة، وبين العلماء والمثقفين من جهة أخرى بأن يدرك الكثير من الحكام أن المثقفين ليسوا خطرا على أحد منهم، فهم أصحاب رسالة ورأي وفكر، وإن أقصى ما يملكونه هـو التعبير عن هـذا الرأي والفكر بأقلامهم وألسنتهم إذا ما أتيح لهم الجو المناسب لإبداء الرأي وتقديم النصيحة، كما أن على الحكام استيعاب المثقفين داخل تيار العمل الوطني باعتبار ذلك جزءا من مسئوليتهم، بدلا من الحرص على إسكاتهم أو شراء ذممهم أو احتوائهم.

وفي مقابل ذلك يجب أن يدرك المثقفون حجم التحديات القائمة، وفداحة الأخطار المحيطة، وأن دورهم العلمي والتوجيهي يتطلب منهم أن يقدموا أكثر من النصيحة المجردة التي يلقيها صاحبها من برجه العالي ثم يمضي، وإنما يجب عليهم المشاركة الحقيقية في توجيه الناس وتبليغهم؛ لأن المرحلة الحرجة من حياة الأمم تتطلب عملا دءوبا واقترابا من صنع القرار واستعلاء على كلمات التجريح واتهامات الجري وراء المصالح الذاتية.

وبناء على هـذه الأسـس المتقدمة يمكن التأسيس لحوار هـادف وبناء يسعى للتواصل بين الحكام وشعوبهم، ويتيح للجميع المشاركة في اتخاذ القرار وتحمل المسئوليات التي تقع على عاتق الجميع، كل من منصبه، وبأسلوب من الاحترام المتبادل بعيدا عن الانتقاص من مكانة أي طرف من الأطراف؛ لأن أبرز مقومات نجاح الحوار هـو حفظ مكانة الطرف (الآخر) والمحافظة على حقه وإنصافه من كل وجه، بغض النظر عن صفة المحاور أو مركزه العلمي والاجتماعي؛ لأن الأمر المهم في الحوار هـو إبراز حق الخصم وإنصافه حتى لا تنقلب المحاورة إلى مكابرة. [ ص: 177 ] 12- إن المسلمين وعلى مدى تاريخهم القديم والمعاصر أثبتوا أنهم دعاة حوار وتفاهم وتعاون بين بني الإنسان، وهم يصدرون في ذلك عن مبادئ دينهم وتعاليمه وعن قيم الحضارة الإسلامية التي تعايش في ظلالها أكثر الملل والنحل وأصحاب الحضارات والثقافات المختلفة في أخوة إنسانية بعيدة عن التعصب أو فرض الهيمنة، وهو أمر يشهد به غير المسلمين في أكثر من مناسبة وعلى أكثر من صعيد، ذلك أن التسامح والانفتاح على الثقافات والحضارات والحوار معها والتعاون من المقومات الأساسية للمجتمعات الإسلامية، حيث كان الفكر الإسلامي أول الأفكار التي استطاعت استيعاب وجهات النظر العلمية المتعددة وهضمها والتفاعل معها، مما كان سـمة بارزة للمبادئ التي جاء بها الإسلام الذي أقر التعدد والاختلاف ودعا إلى التعايش الحضاري والثقافي بين بني البشر، وإذا كان الحوار مع الآخر «حوار الحضارات والأديان» ضرورة إنسانية أملتها طبيعة الحياة المعاصرة، فإنه في الإسلام واجب شرعي وتكليف ديني ألزم الله به المسلمين، حرصا على إشاعة قيم التعاون والتسامـح في إطـار وحـدة الجنس البشري، وصدق الله تعالى إذ يقـول:

( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات: 13) .

13- إن الحوار الذي يراد منه أن تتخلى الأمة عن هـويتها وخصائصها الذاتية وتصوراتها الفكرية لا يمكن أن يكون في حال من الأحوال تفاعل ا [ ص: 178 ] إيجابيا وناجحا؛ لأنه بذلك يكون نوعا من أنواع التبعية الثقافية والفكرية، كما أنه يؤدي إلى أن تصبح الأمة متلقية لفكر جديد وتصور مستورد، وعندئذ ستكون مغزوة في فكرها ومهددة في وجـودها وكيانها، وسـتكون ضحية عدوان أيديولوجي وفكري وثقافي وهو أشـد أنواع العدوان وأعلى مرحلة من مراحل محو الثـقافة، ولن ترضى الأمة الإسلامية أن يكون التفاعـل الحضاري غزوا لثـقافتها أو محوا لحضارتها، وذوبانا في ثقافات الأمم، واندماجا في حضارات الشعوب، بدعوى التواصل الثقافي أو التحاور الحضاري، فالعالم العربي والإسـلامي الذي يمد جسـور التلاقي والتعاون والتفاعل مع الأديان السماوية والثقافات والحضارات الأخرى لا يقبل أن يكون ضحية تغريب العالم من خلال تفاعل حضاري يفقد معنى العطاء المتوازن والمنفعة المتبادلة.

14- إن العالمية التي يدعو إليها الإسلام لا تتعارض في حال من الأحوال مع مبدأ الحوار، وإنما تتفق معه بكل جوانبها؛ لأنها تعني الاعتراف بواقع الأديان والحضارات والثقافات الأخرى؛ ولأنها تمهد الطريق للتعاون بين بني البشر وفق معطيات التفاعل الحضاري، دون أن يفرض طرف ثقافته ومعتقداته على الطرف الآخر، فهو بذلك حـوار يحفظ للشعوب هـويتها وخصوصيتها الثقافية ويمنع الصدام والتناحر والعدوان.

أما العولمة ، فإن العالم الذي يعيش تحت مظلتها لا يمكن أن يقوم فيه حوار يعتمد أسـس التفاعل الحضاري الذي يؤمن به الإسلام في علاقته مع الأمم الأخرى، وإنما سيكون الحوار في ظل العولمة حوار الهيمنة والسـيطرة وفرض الأمر الواقع، ثقافـيا واقتصاديا وسياسيا، وهو ما يرفضه الإسـلام ولا يرضاه لأتباعه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 179 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية