الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الحوار (الذات .. والآخر)

عبد الستار إبراهيم الهيتي

تمهيد

أولا: مفهوم الحوار

الحوار وعلاقته بالمصطلحات المماثلة

إذا رجعنا إلى كتب اللغة ومعاجمها فإننا نجد فيها مصطلحات تتفق في جانب من مفاهيمها ومعانيها مع مصطلح الحوار، وإذا أردنا أن نقف على مفهوم الحوار فإن ذلك يتطلب الوقوف على مفاهيم تلك المصطلحات التي لها علاقة وثيقة به وهي الجدل، والمناظرة؛ لأن هـناك تداخلا كبيرا في مستوى الدلالة بين هـذه المصطلحات الثلاثة (الجدل - المناظرة - الحوار) وسنحاول هـنا الوقوف على مفهوم كل مصطلح على حدة لنرى أوجه الاتفاق والاختلاف بينها.

مفهوم الجـدل.

جاء في كتب اللغة أن الجـدل : شدة الفتل



[1] ، والجـدل : اللدد في الخصومـة والقدرة عليها، والجدل: مقابلة الحجـة بالحجـة



[2] . وفي [ ص: 35 ] الحديث عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما ضل قوم بعد هـدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل )



[3] .

ويتضح لنا أن كلمة الجدل تدور حول معنيين هـما:

المعنى الأول: الغلبة والقوة والصلابة، وهو مأخوذ من الجدل الذي هـو شدة فتل الحبل، وإذا نقلنا هـذا المعنى اللغوي المحسوس إلى الجوانب الفكرية والعقلية فسنجد بينهما تطابقا واتفاقا؛ لأن كل واحد من المتجادلين يحاول بقوته وفكره أن يجادل (الآخر) ويفتله «يثنيه» عن رأيه، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بقوة الدليل وصلابة الفكرة.

المعنى الثاني : اللدد في الخصومة مع القدرة عليها، وهذا المعنى اللغوي يتفق مع نوع من أنواع الجدل الفكري وهو اللجاج الذهني، الذي لا يكون الغرض منه الوقوف على الحقيقة أو الوصول إلى الصواب وإنما مجرد الجدل لأجل الجدل وهو ما يطلق عليه العلماء الجدل المذموم ومنه قوله تعالى:

( وقالوا أآلهتنا خير أم هـو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هـم قوم خصمون ) (الزخرف:58) .

أما في الاصطلاح : فقد عرفه الجرجاني بأنه: القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، يكون الغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هـو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان، ودفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة



[4] .. أما المعجم الوسيط فقد عرفه بأنه: طريقة في المناقشة [ ص: 36 ] والاستدلال صورها الفلاسفة بصور مختلفة، وهو عند مناطقة المسلمين قياس مؤلف من مشهورات أو مسلمات



[5] .

وقد قسم علماء المسلمـين الجدل إلى جدل محمود وجـدل مذموم.. أما المحمود فهو: ما كان من أجل تقرير الحق، وهو مهنة الأنبياء في الدفاع عن العقيدة، ومنه قوله تعالى:

( وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل:125) ،

ذلك أن المجادلة بالتي هـي أحسن هـو الحوار؛ لأن الهدف منه هـو الإقناع والتربية والتوجيه



[6] .. وأما الجدل المذموم فهو: الذي يتعلق في تقرير الباطل



[7] ويراد به الجدل على الباطل وطلب المغالبة فيه. وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ) (غافر:4)

وقولـه تعالى: ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ) (غافر:5) .

مفهوم المناظرة

المناظرة لغة من النظير، أو من النظر بالبصـيرة، فهي من النظر تفيد الانتظار والتفكير في الشيء تقيسه وتقدره، ومن التناظر تفيد التقابل



[8] ، ومن النظير تفيد التماثل



[9] . [ ص: 37 ]

أما في الاصطلاح فهي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشـيئين إظهارا للصواب [10] ، وهي بـهذا المعنى تفيد المحاورة بين شخصين أو فريقين حول موضوع معين، لكل منهما وجهة نظر تخالف وجهة نظر الفريق الآخر، بحيث يريد إثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر خصمه، مع توفر الرغبة الصادقة بظهور الحق والاعتراف به عند ظهوره.

مفهوم الحوار

الحوار في اللغة ذكر علماء اللغة ل ( حـور ) معاني متعددة تبعا لتفعيلاتها الصرفية، فقد جاء أن الحور: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، يقال حار إلى الشيء وعنه حورا و محارا و محارة رجع عنه وإليه



[11] .

وكل شيء تغير من حال إلى حال، فقد حار يحور حورا، قال لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هـو ساطع [12]

والمحاورة: المجاوبة. و التحاور: التجاوب، تقول أحرت له جوابا وما أحار بكلمة [13] . والحور: الجواب، يقال كلمته فما رد إلى حورا أو حويرا. [14]

واستحاره أي استنطقه. يقال: كلمته فما رد إلي حورا أي جوابا، وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، و المحاورة: مراجعة المنطق في المخاطبة. [15] . [ ص: 38 ] والحواريون في اللغة الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب؛ وكل شيء خلص لونه، فهو حواري.



[16]

ويتضح لنا من خلال ما تقدم أن كلمة الحوار تدور حول المعاني التالية :

1- الرجوع إلى الشيء وعن الشيء، والمتحاورون قد يرجع أحدهم إلى رأي الآخر أو قولـه أو فكره رغبة في الوصول إلى الصواب والحقيقة، ومنه قوله تعالى: ( إنه ظن أن لن يحور ) (الانشقاق:14) أي لن يرجع مبعوثا يوم القيامة.

2- التحول من حال إلى حال، فالمحاور يتنقل في حواره من حالة إلى أخرى، فمرة يكون مستفسرا، وأخرى يكون مبرهنا، وثالثة يكون مفندا، وهكذا.

3- الإجابة والرد، وهو قريب من المعنى الاصطلاحي للحوار؛ لأن كلا من طرفي التحاور يهتم بالإجابة عن أسئلة صاحبه، ويقدم مجموعة من الردود على أدلته وبراهينه.

4- الاستنطاق ومراجعة الحديث، فكل واحد من المتحاورين يستنطق صاحبه ويراجع الحديث معه لغرض الوصول إلى هـدفه وقصده.

5- النقاء والتخلص من العيوب، والواقع أن طبيعة الحوار والمناقشة تؤدي بالنتيجة إلى التخلص من العيوب الفكرية، من خلال طرح الأفكار المتعددة واختيار الراجح منها. [ ص: 39 ]

الحوار في الاصطلاح

وبعد هـذا العرض للمدلول اللغوي يمكن لنا أن نحـدد المعنى الاصطلاحي للحوار بأنه: أسلوب يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.

ومما لا شك فيه فإن كل واحد من المشتركين في الحوار لا يقتصر على عرض الأفكار القديمة التي يؤمن بها وإنما يقوم بتوليد الأفكار في ذهنه، ويعمد إلى توضيح المعاني المتولدة من خلال عرض الفكرة وتأطيرها وتقديمها بأسلوب علمي مقـنع للطرف الآخر، بحيث يظل العقل واعيا طوال فترة المحاورة ليستطيع إصدار الحكم عليها، سلبا أو إيجابا.



[17]

وبعد هـذا العرض الذي قدمناه لمدلولات المصطلحات المتداخلة (الجدل- والمناظرة - والحوار ) يتضح لنا أن الحوار وإن كان مناوبة الحديث بين طرفين إلا أنه لا يشتمل على الخصومة والمنازعة والمراء كما هـو الجدل، وإنما هـو أداة أسلوبية تستخدم لمعالجة موضوع من الموضوعات المتخصصة في حقل من حقول العلم والمعرفة أو جانب من جوانب الفكر والعقيدة، للوصول إلى حقيقة معينة بهذا الشكل من أشكال الأسلوب والمحادثة، وهو عملية تتضمن (طرحا) من طرف، يتمثله الطرف (الآخر) ويجيب عليه فيحدث (تجاوب) يولد عند كل منهما (مراجعة) لما طرحه الطرف (الآخر) ، وهذه العملية هـي التي يطلق عليها الحوار أوالمحاورة. [ ص: 40 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية