الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الحـوار بين العالمية والعولمة

هنالك فرق كبير بين المصطلحين: العالمية والعولمة . فالمصطلح الأول يعني أن أبناء هـذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته وملله ونحله، يعيشون على هـذه الأرض، فلا بد أن يتفاهموا فيما بينهم، تمهيدا للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من أن يأخذ بعضهم من بعض. ولا يجوز أن يفرض بعضهم على بعض لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه. فالاختلاف في هـذا الإطار طبيعي جد ا، والتعاون ضروري أبد ا، لمنع الصدام والحروب والعدوان.

وهذه العملية العالمية هـي التي تسمى بالتثاقف الحضاري بين الشعوب والأمم، وهي واقع البشرية منذ أقدم العصور إلى اليوم، فاللغات تلاقحت، والمجتمعات تعاونت، والحضارات عبرت من مكان إلى مكان.

والعالمية بهذا المفهوم هـي التي يدعو إليها الإسلام من خلال الدعوة الوادعة، والجدال الحسن، دون إكراه لأحد، منطلقا من هـدي القرآن وتوجيهاته،

كما في قوله تعالى: ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) (المائدة:48) ،

وقولـه تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة:256) ،

وقولـه تعالى: ( وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ) (آل عمران:20) ،

وقوله تعالى: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8) . [ ص: 154 ] والمتتبع لأحداث التاريخ عامة، وتاريخ الإسـلام خاصة، يقف على أنه لم يرد فيه دليل على أن المسلمين رسموا للبشرية طريقا واحدا ووجهة واحدة وحكما واحدا ونظاما واحدا وعالما واحدا بقيادة واحدة بالإجبار والإكراه، بل اعترفوا بواقع الأديان واللغـات والقوميات، عامـلوها معامـلة كريمة، بلا خداع ولا سفه ولا طعن من الخلف؛ ولذلك عاش في المجتمع الإسلامي اليهودي والنصراني والصابئي والمجوسي وسائر أهل الشرك بأمان واطمئنان



[1] .

أما العولمة التي هـي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Globalization فهي مصطلح يعني جعل العالم عالما واحدا، موجها توجيها واحدا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبية.



[2]

يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي عن العولـمة: «نظام يمكن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق»



[3] .

ويثبت هـانس بيترمارتن وهارالد شومان، صاحبا كتاب فخ العولمة أن العولمة هـي عملية الوصول بالبشرية إلى نمط واحد في التغيير والأكل والملبس والعادات والتقاليد



[4] . [ ص: 155 ] ويقول الدكتور سـيار الجميل : إنها عملية اختراق كبرى للإنسـان وتفكيره، وللذهنيات وتراكيبها، وللمجتمعات وأنساقها، وللدول وكياناتها، وللجغرافيا ومجالاتها، وللاقتصاديات وحركاتها، وللثقافات وهوياتها، وللإعلاميات وتداعياتها



[5] .

وأما الدكتور مصطفى محمود فيقول: العولمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيـته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلا خادم للقوى الكبرى.



[6]

ومن خـلال ما تقدم يتضـح لنا أن العالمية التي يدعو إليها الإسـلام لا تتعارض في حال من الأحوال مع مبدأ الحوار، وإنما تتفق معه بكل جوانبها؛ لأنها تعني الاعتراف بواقع الأديان والحضارات والثقافات الأخرى؛ ولأنها تمهد الطريق للتعاون بين بني البشر وفق معطيات التفاعل الحضاري، دون أن يفرض طرف ثقافته ومعتقداته على الطرف الآخر، فهو بذلك حوار يحفظ للشعوب هـويتها وخصوصيتها الثقافية ويمنع الصدام والتناحر والعدوان.

أما العـولمة فهي تحمل نتائج رهيبة أجـمع الباحـثون عليها، حيث لا توجد فيها لغة مشتركة تجمع بين الحضارات والثقافات الإنسانية المختلفة؛ لأن المجتمعات الفقيرة والضعيفة في عرف العولمة لا تستحق البقاء، ويجب إسقاطها من الحساب على مستوى العلاقات الدولية المعاصرة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العولمة تعني بالنتيجة عودة الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي من جديد بصورة [ ص: 156 ] العولمة المزعومة من خلال تركيزها على الاقتصاد الحر واتفاقية الجات، والتبعية السياسية، ونشر القيم الاستهلاكية، والجنس والعنف والجريمة المنظمة، حتى غدا العالم الذي خضع للعولمة بدون دولة، وبدون أمة، وبدون وطن، فقد شطرت العولمة العالم إلى شطرين: عالم المؤسـسات والشـبكات، عالم الفاعلين والمسيرين، وعالم آخر هـم المستهلكون للمأكولات والمعلبات والمشروبات والصور والمعلومات التي تفرض عليهم



[7] .

يقول رئـيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد الذي عانت بلاده من آثار العولمة في السنوات الأخيرة: إن العالم المعولم لن يكون أكثر عدلا ومساواة، وإنما سيخضع للدول القوية المهيمنة، وكما أدى انهيار الحرب الباردة إلى موت وتدمير الكثير من الناس فإن العولمة يمكن أن تفعل الشيء نفسه وربما أكثر من ذلك، وفي عالم معولم يكون بإمكان الدول الغنية فرض إرادتها على الباقين الذين لن تكون حالهم أفضل مما كانت عليه عندما كانوا مستعمرين من قبل أولئك الأغنياء.



[8]

وبناء على ما تقدم، فإن العالم الذي يعيش تحت مظلة العولمة لا يمكن أن يقوم فيه حوار يعتمد أسـس التفاعل الحضاري الذي يؤمن به الإسلام في علاقته مع الأمم الأخرى، وإنما سـيكون الحوار في ظل العولمة حوار الهيمنة والسـيطرة وفرض الأمر الواقع، ثقافـيا واقتصاديا وسـياسي ا، وهو ما يرفضه الإسـلام ولا يرضاه لأتباعه. [ ص: 157 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية