الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الحوار فيما بين الفرق والمذاهب الإسلامية

تلقت الأمة الإسلامية القرآن الكريم مكتوبا محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتشرت رواية الحديث من قبل الصحابة والتابعين في مختلف الأمصار، ورحل العلماء يجوبون الأقطار ويدونون السنة، وكان من نتيجة ذلك أن تكونت المدارس الفقهية، وتحددت أصول ومناهج تلك المذاهب، واختلف العلماء فيما بينهم حول بعض الأصول الشرعية وتقديم بعضها على بعض، وقد أدى الاختلاف في بعض الأصول إلى الاختلاف في الفروع الفقهية، وكثر الجدل بين علماء هـذه المذاهب وعقدت المناظرات والمساجلات، وشجع على هـذا كله اهتمام الخـلفاء بالعلوم، وخاصة علم الفقه، ومشـاركتهم في هـذه العلوم ورعايتهم لتـلك المناظرات والمداولات.

وقد ساعد اشتغال بعض العلماء بالفقه الافتراضي في توسيع دائرة الخلاف، ولكن الخلاف كان محكوما بالدليل والبرهان، فقد كان العلماء في تلك الفترة يرفضون التقليد، وينظرون في الدليل، وينهون عن التعصب، ويأخذون الحق ممن جاء به.

وإذا كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من العلماء المجتهدين قد اختلفوا في العديد من المسائل الفقهية، فإن اختلافهم كان ضرورة علمية وأمرا طبيعيا اقتضاه الفهم والإدراك للنصوص والأدلة الشرعية، وليس اختلاف تقليد وتعصب، أما المقلدون من أتباع المذاهب فإن الواحد منهم يظهر له الدليل فلا يدع مذهبه.

ولم يؤد اختلاف الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى التباغض والتفرق، فكان بعضهم يدعو لبعض، ويصلي بعضهم وراء بعض، أما هـؤلاء المقلدون فقد تعادوا وتباغضوا وتركوا الصلاة خلف من يخالفهم في المذهب، [ ص: 114 ] وطعن أتباع المذاهب بعضهم في بعض، يقول الشيخ محمد رشيد رضا : «المتعصبون للمذاهب أبوا أن يكون الخلاف رحمة، وتشدد كل منهم في تحتيم تقليد مذهبه، وحرم على المنتمين إليه أن يقلدوا غيره ولو لحاجة فيها مصلحتهم، وكان من طعن بعضهم في بعض ما هـو معروف في كتب التاريخ وغيرها حتى صار بعض المسلمين إذا وجد في بلد يتعصب أهله لمذهب غير مذهبه ينظرون إليه نظرتهم إلى البعير الأجرب بينهم»



[1] .. ويذكر الشوكاني أن بعض الذين ادعوا العلم من الزيدية كفر رجلا صالحا بسبب رفع الأخير يديه في الدعاء مخالفا لطريقة الزيدية، ويذكر أن لقب سني في اليمن في عهده كان لقب ذم لأنه استقر في أذهانهم أنه لا يطلق إلا على من يوالي معاوية ويعادي عليا ، رضي الله عنهما .



[2]

وقد وصل الخلاف والخصام بين مقلدي وأتباع المذاهب إلى درجة خطيرة، فقد عادى بعضهم بعضا، وصار يسعى بالكيد والأذى لبعضهم الآخر، وقد تسبب ذلك في حدوث الفتن الكثيرة، ويروي التاريخ لنا حوادث متعددة من هـذا القبيل، فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير أن عزيز مصر، وهو الملك الأفضل ابن صلاح الدين، كان قد عزم في السنة التي توفي فيها، وهي سنة 595هـ، على إخراج الحنابلة من بلده وأن يكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد.



[3] [ ص: 115 ] ومنها ما ذكره أيضا من وقوع فتنة كبيرة ببلاد خراسان بسبب وفود فخر الدين الرازي إلى ملك غزنة الذي أكرمه وبنى له مدرسة في هـراة ، ولكن أهل البلاد الذين كانوا على غير مذهبه أبغضوه وناظروه وانتهت المناظرة بالسب والشتم حتى أثاروا الناس عليه، فأمر الملك بإخراج الرازي من بلاده.



[4]

ومنها ما روي عن الخلاف الشديد بين الحنفية والشافعية حتى كان يئول الأمر في بعض الأحيان إلى خراب البلاد، فقد ذكر ياقوت الحموي عند الكلام على مدينة أصفهان بعد أن ذكر مجدها القديم: «وقد فشا فيها الخراب في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلـما ظهرت طـائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقـتها وخربتها، ولا يأخذهم في ذلك إلا ولا ذمة، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها» .



[5]

لقد أدى التعصب المذهبي المقيت إلى زرع الخلاف والشقاق بين أبناء الأمة وتفتيت وحدتها وتقسيمها إلى أمم متخاصمة تتقاتل وتتنازع، فاستغل العدو المتربص بها هـذا الانقسام والفوضى، فبسط سيطرته عليها وأمعن في إذلالها وقهرها، وكان السبب المباشر في كل هـذا انعدام المنهجية الصحيحة للحـوار بين أبناء الأمة الواحدة، ذلك أن الحـوار بين الفرق والمذاهب الإسلامية لا يكاد يبدأ جدالا بالتي هـي أحسن حتى تتسلل إليه الحدة والشدة، وتستولي عليه روح الضيق بالمخالفين والمسارعة إلى اتهامهم في أفكارهم ونياتهم وأخذهم بالشـبهة وسـوء الظن، فقد تصور الكثير من [ ص: 116 ] العاملين في حقل البحوث الفقهية من أبناء الأمة أن الحقيقة لا يمكن أن تتعدد وجوهها اعتمادا على التفسير الحرفي للنصوص وعزلها عن سياقها المقصود وعدم ربط الأحكام بعللها وغاياتها.

إن التأمل الهادئ والتأني في التعامل مع النصوص الشرعية والجمع بينها وبين نصوص أخرى عديدة يثبت بما لا يقبل الشك الدعوة إلى النظر العقلي والاجتهاد في البحث عن الحق والصواب، مما يؤدي إلى موقف مختلف تماما عن التنازع والشقاق، حيث يتسع صدر «الإسلام» لاختلاف الآراء وتعدد وجهات النظر ولا يضيق عن الاجتهاد حتى ولو انتهى صاحبه إلى الخطأ ومجانبة الصواب.

وبناء على ذلك: فإن أطراف الحوار حول قضايا الإسلام وأحكامه يجب عليهم أن يدركوا أن وحدة «الحقيقة» لا تنفي تعدد زواياها واختلاف العقول في تفسيرها، ومن هـنا سجل التاريخ اختلاف الصحابة في أمور عديدة وردت فيها نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، كما سجل التاريخ اختلاف التابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب من بعدهم في الكثير من المسائل الفقهية دون نزاع بينهم أو إيغار للصدور أو جرح للكرامة، فالقاعدة عندهم: «أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، والأصل الذي يسيرون عليه يثبت أن: «مذهبنا راجح يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب».

إن من الضروري للحوار فيما بين المذاهب والفرق الإسلامية وضع الحدود بين ما هـو «وحي» لايصح تجاوزه ولا يكون لمؤمن ولا مؤمنة بعده [ ص: 117 ] الخيرة من أمرهم، وبين ما هـو من أمور الدنيا أو من أمور العادات بحيث يستطيع المتحاورون في شأنه أن ينطلقوا في حوارهم باحثين عما يحقق للناس مصالحهم وحاجاتهم دون أن يواجهوا عند كل منعطف بأنهم مارقون من الإسلام، أو مستخفون بأحكامه، أو هـادمون لأركانه.

التالي السابق


الخدمات العلمية