الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الحضارات.. صراع أم حوار؟

تبادلت الشعوب والأمم منذ القدم المعارف والخبرات وأنماط الحياة، فأدى ذلك إلى نمو الثقافات وازدهارها، وإلى التواصل والتفاهم بين الحضارات المختلفة، ويهمنا هـنا أن نبحث عن العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، باعتبارهما تشكلان أبرز حضارتين تربطهما مصالح وآمال وآلام مشتركة في عالم اليوم، وللوقوف على شكل العلاقة بين هـاتين الحضارتين [ ص: 162 ] يمكن لنا أن نطلع على التوجهات والأطروحات التي تعتمدها كل حضارة.

ففيما يتعلق بالحضارة الإسلامية، فإن المتتبع للعهود التي ازدهرت بها تلك الحضارة وتعاملت فيها مع شعوب مختلفة وأجناس متعددة، يجد أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم كانت علاقة احترام وتفاهم وتواصل، ولم يذكر التاريخ أن المسلمين حاولوا استلاب ثقافة الآخرين أو إملاء ثقافتهم عليهم بالقوة، وقد تعامل المسلمون مع غيرهم بهذه المفاهيم بناء على الثوابت الواردة في القرآن الكريم في هـذا الشأن، منها قوله تعالى:

( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هـم الظالمون ) (الممتحنة:8-9) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) ،

وقولـه تعالى: ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هود:118-119) ،

مما يثبت أن الإسلام يريد للعلاقة بين الحضارات أن تكون علاقة حوار وتفاهم وتواصل، وليست علاقة صراع وصدام وتنافر.

أما الحضارة الغربية، فقد برز فيها اتجاهان متباينان :

الاتجاه الأول : يرى أن العلاقة بين الحضارات يجب أن تكون علاقة صراع وتصادم، وقد برزت دعوات غربية بهذا الاتجاه منها:

المقالة التي نشرها جاك شاهين ( مستشار شبكة سي. بي. إس. التلفزيونية لشئون الشرق الأوسط ومؤلف كتاب « العربي كما يظهره [ ص: 163 ] التلفزيون») وتتضمن عرضا موجزا للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي أنتجتها هـوليود من سنة 1990م إلى سنة 1996م والتي تظهر العرب والمسلمين في صورة كاريكاتورية مشوهة، غالبا ما تكون صورة «الإرهابيين»، حيث توحي تلك الأفلام أن العنف جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي والقرآن الكريم.



[1]

ومنها المقالة التي نشرها صموئيل هـانتنغتون أستاذ العلوم السياسية في جامعة هـارفارد بعنوان «صدام الحضارات» سنة 1993م ووسعها وأصدرها في كتاب خاص سنة 1996م، وهي مقالة تحذر شعوبا من شعوب بسبب ثقافاتها، ويرى كاتبها أن ثقافة الإسلام وحضارته هـي مصدر الخطر وعامل التهديد لثقافة الغرب وحضارته بل هـي العدو الذي تجب محاربته والقضاء عليه، وفي هـذا يقول هـانتنغتون: «يعتبر التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات؛ إذ إن المواجهة التالية ستأتي حتما من العالم الإسلامي وستبدأ الموجة الكاسحة التي تمتد عبر الأمم الإسلامية من المغرب إلى باكستان التي تناضل من أجل نظام عالمي جديد»



[2] .

وقد نالت هـذه المقالة منذ نشـرها شهرة مدوية، حتى قيل إنها أصبحت الخطة «الاستراتيجية» للولايات المتحدة في مواجهة تحديات المستقبل.

الاتجاه الثاني: يرى أن العلاقة بين الحضارات يجب أن تكون علاقة تفاهم وتعاون، وبالتالي علاقة حوار وتواصل، وقد برزت دعوات ومواقف لبناء علاقات ثقافية بين الحضارات المتعددة، منها: [ ص: 164 ] الموقف الذي اتخذه الفاتيكان في عام 1969م حيث أصدر كتابا عنوانه: «دليل الحوار بين المسلمين والمسيحيين» قدم فيه عرضا موجزا لبعض مبادئ الإسلام، ومن أهم ما جاء فيه: «يجب أن نعمل على معرفة قيم الإسلام ومثله... » وفيه أيضا: «علينا نحن المسيحيين أن نعترف بالمظالم التي ارتكبت في الماضي، وعلينا أن نتخلص من أسوأ مشاعر تحيزنا، وعلينا أن نذكر فكرة المسلمين عن المسيحية». [3]

ويتضح من محتويات الكتاب أن الفهم الصحيح للفريق الآخر من حيث تاريخه وحاضره وثقافته هـو أساس التفاهم، ولا يكون الفهم صحيحا إلا إذا تحلى بروح العدل والإنصاف والموضوعية.

ومن المواقف التي تدخل ضمن هـذا الاتجاه موقف الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا عندما وقف محاضرا في مركز أوكسـفورد للدراسـات الإسـلامية عن «الإسلام والغرب» حيث قال: إن سوء الفهم بين الإسلام والغرب ما يزال مستمرا بل ربما أخذ يزداد، وإن الصراع يندلع نتيجة عدم القدرة على الفهم والعواطف الجياشة التي تؤدى نتيجة لسوء الفهم إلى الخوف وانعدام الثقة... فالذي يربط بين عالمينا أقوى بكثير مما يقسمهما... لقد عانى حكمنا على الإسلام من التحريف الجسيم، أرجو أن تتذكروا أن دولا إسلامية منحت نساءها حق التصويت في نفس الفترة التي منحت فيها أوربا نساءها الحق نفسه، بل قبل فترة طويلة من اتخاذ سويسرا نفس الخطوة، كما أن القرآن الكريم نص قبل أربعة عشر قرنا على حقوق المرأة المسلمة في الأملاك والإرث وبعض الحماية في حالة الطلاق وممارسة التجارة، [ ص: 165 ] وفي بريطانيا على الأقل كانت بعض هـذه الحقوق غريبة حتى على جيل جدتي، فالتطرف ليس حكرا على الإسلام، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية.. إذا كان هـناك قدر كبير من سوء الفهم في الغرب لطبيعة الإسلام، فإن هـناك أيضا قدرا مساويا من الجهل بالفضل الذي تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي، إن هـذين العالمين، الإسلامي والغربي قد وصلا الآن إلى ما يشبه مفترق طرق علاقتهما، ولا يجوز أن ندعهما يفترقان، وأنا لا أوافق على مقولة إنهما يتجهان نحو صدام في عهد جديد من الخصومة والعداء، بل إنني على قناعة تامة بأن لدى عالمينا الكثير لكي يقدماه إلى بعضهما



[4] .

ولا بد من الإشارة هـنا إلى أنه إضافة لوجود اتجاهات مختلفة ومفاهيم متباينة في تحديد شكل العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، فإن هـناك مخاوف واتهامات متبادلة بين الطرفين يجب عدم إغفالها أو التغاضي عنها.

فالمسلمون لهم مخاوفهم التي يتوقعونها من الغرب، والتي يرون أن آثار بعضها لا تزال ماثلة أمام أعينهم، وتتمثل تلك المخاوف بما يلي:

1 - خلفية الحروب الصليبية وآثارها على الأمة.

2 - الاستعمار الأوربي بشكليه القديم والحديث.

3 - مناصرة الغرب للقوى الغاشمة «الاحتلال» والتدخل في الشئون الداخلية لدول العالم الإسلامي.

4 - الطمع في ثروات الأمة للمحافظة على مصالح الدول الغربية. [ ص: 166 ] والغرب له مخاوفه أيضا، وهي مخاوف لها دويها الإعلامي، ولها علماء ومراكز بحوث وساسة يروجونها، ويقترحون من وسائل مقاومتها ما يصبح خططا استراتيجية تتبناها الحكومات، وتتمثل تلك المخاوف بما يلي:

1 - هـجرة عدد كبير من رعايا العالم الثالث إلى الدول الغربية وخاصة دول الاتحاد الأوربي.

2 - تهديد ما يسمونه «الأصولية الإسلامية» لتلك الدول.

هذه المعطيات تشـير إلى أن مؤتمرات الحوار وندواته بمختلف أنواعها منذ ما يزيد على ثلاثين عاما، التي كانت ترمي إلى إقامة علاقات ثقافية بين الجانبين، لم تحقق شيئا ذا قيمة لحد الآن، ولم تصل إلى نتيجة ملموسة، وأن هـذا الحوار بقي محصورا بين نفر محدود داخل غرف مغلقة، مثل مراكز البحوث والدراسات، ذلك أن الحوار لا يتحقق إلا إذا كان هـناك بين الطرفين مصالح متبادلة ترمي إلى تحقيق التوازن بين طرفي معادلة الحـوار، ولا بد لهذا التوازن من وجود قوة تقف وراءه، والقوة الوحيدة للمسلمين في الوقت الحاضر تتمثل في التضامن وجمع الكلمة وتوحيد الصف، وبذلك يعود للحوار حرارته وقوته، ويصبح الحديث عن التعاون الثقافي حديثا مؤديا إلى الغاية، محققا للهدف.

ويتضح لنا من خلال ما تقدم: أن طبيعة العلاقة بين الحضارات إذا بقيت داخل مراكز البحوث والدراسة وضمن إطارها الأكاديمي ليقدم المتخصصون لأصحاب القرار السياسي صياغة علمية وتصورا منطقيا، فإن ذلك يجعل العلاقة بين الحضارات علاقة حوار وتفاهم وتواصل.

إن نموذج الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات يحدث عندما تكون الثقافات كلها متساوية، سواء كانت ثقافات عظمى أو ثقافات صغرى، [ ص: 167 ] حيث الثقافات كلها نتاج التاريخ وهي من صنع الناس، وإذا كانت الشعوب متساوية في القيمة بغض النظر عن اللون فإن الثقافات تكون هـي الأخرى متساوية.

أما إذا تحولت العلاقة بين الحضارات إلى مراكز القرار السياسي ودهاليز الخطط الاستراتيجية ، فإنها ستتحول لا محالة إلى علاقة صراع وتصادم وتحدي وسيطرة، مما يقضي على فكرة الحوار الهادئ بين الأطراف.

وهكذا فإن نموذج الصراع والتصادم يحدث عندما تجعل إحدى الثقافات من نفسها الثقافة العظمى، بينما الثقافات الأخرى ثقافات صغرى، حيث تكون العلاقة عندئذ نوعا من الاستلاب الحضاري والعدوان الثقافي العلمي، وهو أشد أنواع العدوان وقعا على الشعوب والأمم.

التالي السابق


الخدمات العلمية