الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الحوار الديني المنضبط

إن الحوار بين المذاهب والفرق الإسلامية اليوم إذا أردنا له النجاح في مسيرته والوصول إلى أهدافه، يجب أن يعتمد على جملة من الحقائق هـي:

1 - إن تطبيق أحكام الإسلام في عصرنا يحتاج إلى اجتهاد عقلي واسع، ذلك أن النصوص الشرعية - قرآنا وسنة - محدودة ومتناهية، والحوادث متجددة غير متناهية تبعا لحركة الزمن وتطور أنماطه، ولا بد للتشريع أن يساير حركة الزمن وتطوره ليتحقق من خلال ذلك خلود الإسلام وصلاحية شريعته لكل زمان ومكان، وقد ثبت بالنص اعتماد الاجتهاد سبيلا للوصول إلى الحكم الشرعي عند عدم وجود النص، وذلك في حديث معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن وسأله عما يفعل إذا عرض له قضاء، وافترض عليه أمورا ربما لا يجد لها حلا في كتاب الله وسنة رسوله، فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاده وأعلن أن ذلك مسلكا يرضى عنه الله ورسوله، فقد ( روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: كيف تقضي، فقال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله، قال: فبسنة [ ص: 118 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: أجتهد رأيي، قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم . )



[1] ويؤيد ذلك ما تواتر من اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم واجتهادات الصحابة في تفسـير النصـوص عند ورودها والبحـث عن الحكم عندما لا يسعفهم النص، ( عن ابن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم. )



[2]

وفي هـذا دليل واضح على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اجتهاد صحـابته الكرام ولم يعنف أحدا منهم على فهمه وإدراكه، ليكون التشريع ملبيا لمستجدات الأحداث غير المحدودة وغير المتناهية.

2 - إن الإسلام نظام حياة تدور أحكامه مع العلل، وترتبط تشريعاته بالمقاصد المنضبطة التي تدركها العقول السليمة ولا تنفصل عنها، ولو انفصلت لذهبت الرحمة وسقط العدل واستحال التكليف « فإن الشـريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل [ ص: 119 ] إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسـدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشـريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشـريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها»



[3] .. والقول بغير هـذا يتعارض مع توجيه الشريعة في ربط الأحكام بمصالح الناس وتيسير القرآن للذكر ليعملوا به، ومن هـنا فإن الإسلام الذي يجب أن نقدمه للناس هـو إسلام التفكير الناضج والاجتهاد المرن الذي يبحث عن العلل والمقاصد ولا يقف عند حرفية النصوص إلا حيث يتطلب الأمر ذلك في العبادات التي لا يمكن للعقل البشري أن يغور في عللها وأحكامها.



[4]

ومن هـنا يمكن للعقل البشري أن يتعامل مع الأحكام الشرعية المرتبطة بالعلل والمقاصد، بحيث يكون الحوار العلمي وسيلة لفهم النصوص الشرعية وتفسيرها والوصول إلى مراد الله تعالى منها.

3 - إن الإسلام لا يضع أتباعه في صراع مع الحياة؛ لأن المسلم الحق هـو الذي لا يكره الناس والدنيا، ولا يقضي عمره في معركة وهمية مع طبيعتها ونواميسها، فهو يعتقد أن الحياة صنع الله تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هـدى، وقد خلق الله له ما فيها جميعا، ثم دعاه إلى تعميرها، كما قال تعالى: [ ص: 120 ] ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (البقرة:30) ،

وقولـه تعالـى: ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61) ،

ولا يجوز أن يعيش المسلم فيها منغصا معقدا محزونا تملؤه الشكوك والريب والظن السيئ بالنفس وبالناس وبالحياة من حوله، وإنما عليه أن يتمثل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان هـينا لينا سهلا قريبا حرمه الله على النار )



[5] .

إن موقف المسلم من الحياة اليوم قضية مهمة، فلا يصح أن يعزل المسلم نفسه عن مشكلات الحياة المعاصرة، ولا يقف موقفا انعزاليا يتسم بالهروب من الواقع والفرار من المشكلات المستجدة، بل يجب عليه أن يتفاعل معها ويعيش ظروفها بروح مرنة وعقلية ناضجة معتمدة على نور المعرفة وإشـراقات السماحة، كما يجب عليه أن يدخل في حوار علمي مع الطروحات التي يواجهها في جميع مجالات حياته.

إن الملاحظ على أتباع المذاهب والفرق الإسلامية في هـذه الأيام أنهم يتعاملون بسـلبية بعضهم مع بعضهم الآخر، وهذا لاشـك موقف انهزامي لا يحل مشكلة ولا يوصل إلى نتيجة ولا يحقق هـدفا، ولذلك فإننا نوجه دعوة مخلصة إلى كل مسلم -أيا كان مذهبه وإلى أي مدرسة فقهية ينتمي- أن [ ص: 121 ] يوطن نفسه للحوار والمناقشة مع الأطراف الأخرى لنبدأ سوية رحلة «الحوار مع الذات» فالاخـتلاف في الرأي لا يفسـد للود قضية، ومن لا يستطيع محاورة نفسه لا يستطيع أن يحاور الآخرين، ولتكن قاعدة الحوار فيما بينهم: «مذهبنا راجح يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب» وليحيا الجميع في ظل القاعدة الذهبية للاجتهاد الإسلامي التي روي مضمونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر )



[6] .

التالي السابق


الخدمات العلمية