الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
شروط المحاور

أما المحاور فلا بد أن تتوفر فيه الشروط التالية



[1] :

1- أن يتخلى عن النرجسية والأنانية، لأن لجوء المحاور إلى رؤية الآخرين بمنظار معتم أو ضيق، أو تجاهل رؤيتهم أحيانا من خلال عدم [ ص: 76 ] الاعتراف بمهارتهم الفكرية إنما هـي سياسة نرجسية ذميمة لا بد من التخلي عنها، ولا شك أن هـذا المنظار الضيق يؤدي إلى ضعف الحوار واختناق مسيرته وغياب السجال والنقاش العلمي عن واقعنا الفكري.

إن ضوابط الحوار تقتضي وجوب التخلي عن النرجسية؛ لأنها مرض نفسي غير مرغوب فيه، كما أن من الضرورة أن يتخلى أطراف الحوار عن مبدأ تعظيم (الأنا) أو تضخيم الذات، ليكون الحـوار علميا وفعالا، لأن الذاتية والنرجـسية سياسة غير مجدية، وليس هـناك سـبب منطقي يبرر اعتناقها من قبل فرد يحترم إنسانيته وشخصيته ويحترم شخصيات الآخرين.

2- أن يكون المحاور صاحب نظر وتفكير مستقل، بحيث لا يكون مقلدا لغيره، وفي هـذا يقول الإمام الغزالي : «أن يكون اعتماده في علومه على بصـيرته، وإدراكه بصفاء قلبه، لا على الصحف والكتب، ولا على تقليد ما يسمعه من غيره... فلا يسمى عالما إذا كان شأنه الحفظ من غير إطلاع على الحكم والأسرار»



[2] .

فالغزالي يعبر بهذا عن وجهة النظر الصحيحة في الفكر الإسلامي للتعامل مع الطـروحات الفكرية، لأن تفاوت الأحكام عند عدم وجود النصوص أمر لا ينبغي التخوف منه، بل من حقنا أن نستمد منه حرية عقلية وفكرية مطلقة، ذلك أن الحكم الثابت بالنص لا مجال فيه للفكر والاجتهاد ولا مكان معه لحرية الرأي، وإنما تتعدد الآراء وتتباين الطروحات في الميادين [ ص: 77 ] السياسية والاقتصادية وأنواع المعاملات الأخرى التي أسهم فيها العقل البشري بحظ وافر.

3- أن يكون المحاور سريع البديهة، فإن من حسن المحاورة أن يكون المحاور ذواقا للكلام، مدركا لأبعاده، متجاوبا مع العواطف؛ لأن عدم التجاوب السريع مع الطرف الآخر قد يفوت عليه الكثير من المعلومات التي ينبغي أن يتوقف عندها ويعالجها بلباقة وحنكة.

4- أن يحسن المحاور الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في الموضوعات الشرعية بحيث تتوفر لديه القدرة على فهم آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك مما يعينه على ظهور الحق، خاصة فيما يتعلق بمحاورة غير المسلمين.

يقول الدكتور عناية الله : خرجت يوم الأحد من أيام سـنة 1909م، وكانت السماء تمطر بغزارة، فإذا بي أرى الفلكي المشهور السير جيمس جينز - الأستاذ بجامعة كمبردج - ذاهبا إلى الكنيسة، والإنجيل والمظلة تحت إبطه، فدنوت منه وسلمت عليه فلم يرد علي، فسلمت عليه ثانية فلم يرد علي، ثم سلمت عليه مرة أخرى، فسألني: ماذا تريد مني؟

فقلت له: أمرين!

الأول: هـو أن مظلتك تحت إبطك رغم شدة المطر، فابتسـم وفتح مظلته على الفور.

وأما الأمر الآخر: فهو ما الذي يدفع رجلا ذائع الصيت في العلم مثلك أن يتوجه إلى الكنيسة؟ [ ص: 78 ] وأمام هـذا السؤال توقف السير جيمس لحظة ثم قال:

أدعوك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي، فلما دخلت غرفته وجدته منهمكا في أفكاره، فبادرني: ماذا كان سؤالك ؟

ودون أن ينتظر ردي بدأ يلقي محاضرة عن الأجرام السماوية ونظامها المدهش ومداراتها وجاذبيتها حتى أنني شعرت بنفسـي تهتز من هـيبة الله وجلاله، وأما السير جيمس فوجدت شعر رأسه قائما والدموع تنهمر من عينيه ويداه ترتعدان من خشية الله، ثم توقف فجأة، وبدأ يقول:

يا عناية الله! عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي، وعندما أركع أمام الله وأقول له: «إنك لعظيم» أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هـذا الدعاء، وأشعر بسكينة وسعادة عظيمتين، أفهمت يا عناية الله لم أذهب إلى الكنيسة؟

يقول الدكتور عناية الله : لقد أحدثت هـذه المحاضرة طوفانا في عقلي، وقلت له لقد تأثرت جدا بالتفاصيل التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من كتابي المقدس، فلو سمحتم لي بقراءتها، فهز رأسه قائلا: بكل سرور، فقرأت عليه قوله تعالى:

( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:27-28)

فصرخ السير جيمس قائلا: ماذا قلت؟ إنما يخشى الله من عباده العلماء، مدهش وغريب جدا!! إن الأمر الذي حدثتك عنه كان نتيجة دراسـة [ ص: 79 ] اسـتمرت أكثر من خمسين عاما، من أنبأ محمدا به؟ هـل هـذه الآية موجودة في القرآن حقـيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب مني شهادة أن القرآن كتاب موحى به من عند الله.



[3]

لقد تمكن الدكتور عناية الله من مجاراة محاوره الذي كان يتمتع بمكانة علمية في تخصصه بفضل حسـن استشهاده بالنص القرآني الذي استخدمه في موطنه، ليكون بذلك على درجة المساواة مع محاوره، بل ربما تفوق عليه وجعله يؤمن بأحقية دينه وصدق كتابه.

5- أن يحاور من يتوقع الاستفادة منه ممن هـو مشتغل بالعلم



[4] ؛ لأن محاورة الجهلاء توقع المحاور في متاهات الجهل وتشغله عن مصادر المعرفة، كما أن محاورة المغترين بالعلم الذين يريدون الظهور والبروز تقضي على الموضوعية العلمية فتنقلب المحاورة إلى استعراض للقدرات ومهاترات بعيدة عن الحق.

ويعيب الإمام الغزالي على قوم لا خلاق لهم في المحاورة فيقول: «اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة هـي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله»



[5] . [ ص: 80 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية