الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
آداب الحوار

الحوار ظاهرة إنسانية مرتبطة بوحي العقل وإلهامه، وراجعة في نشأتها إلى طبيعة الإنسان المفكرة الناطقة، فهو يؤمن بفكرة معينة فيعرضها ويوضح أهدافها ويدافع عنها، فإذا خالفه في الرأي أحد ما من البشر استجمع أفكاره وقدمها عن طريق حوار يبعث إلى إشغال الذهن وإعمال الفكر ليضيف إلى عقولنا معلومات جديدة، وليفتح أمام أهل العلم آفاقا واسعة في المعرفة.

وإذا أردنا للحـوار أن يبقى عذبا رقيقا، بعـيدا عن التنكيل والمهاترة، فلا بد أن يرتبط بمجموعـة من الآداب الفاضـلة والأخـلاق النبيلة من أجل أن يبقى الفكر متقدا والعطاء موصـولا.. وسنعرض هـنا لأبرز وأهم آداب الحوار وأخلاقه:

1- عفة اللسان والقلم

من أدب الحديث أن لا يتجاوز المتكلم في مدح ولا يسرف في ذم، ومن هـنا فإن على المحاور أن لا يبالغ في الذم فهو طريق الشـر والرذيلة، ولا يسرف في المديح والثناء لأن المبالغة فيه ملق ومهانة.

إن من أقبح الصـفات أن يتنـزل العلماء في حوارهم إلى جارح اللفظ وسيئ العبارة، معللين ذلك بضيق الصدر ونفاذ الصبر، ( فقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، ادع على المشركين.. قال: إني لم أبعث [ ص: 81 ] لعانا وإنما بعثت رحمة )



[1] ، كما ( قال صلى الله عليه وسلم : سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )



[2] .

والمتتبع للحوارات التي يزخر بها تراثنا يدرك الأدب الرائع بين المتحاورين في أدق قضايا الإسلام وأحكامه، ويطلع على النماذج المشرقة التي حواها ذلك التراث الفكري والمعرفي، ولعل أبرز دليل على ذلك الحوار الرائع الذي جرى بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حول توزيع الأراضي على المقاتلين، فقد كان موضوع الحوار منصبا على تفسير آيات عديدة من القرآن الكريـم، ومع ذلك لم يشتد عمر في كلمة، ولم يعنف أحدا في عبارة، وإنما تبادل الجميع الرأي بالرأي والحجة بالحجة حتى اقتنع الجميع برأيه وقالوا: نعم ما قلت وما رأيت



[3] .

ومن النماذج الحـوارية الفاضلة الحـوار المكتوب الذي تم تبادله بين عالميـن جليلين من علماء الأمة هـما: إمـام دار الهجرة مالك بن أنس ، رحمه الله، وإمام مصر وعالمها الكبير الليث بن سـعد ، رحمه الله، فعـلى الرغم مما اشتملت عليه تلك الرسالتان من عرض لمسائل وأحكام عديدة فقد [ ص: 82 ] جاءتا آية مشرقة من آيات الحوار الراقي العفيف الذي نحن بحاجة إلى مثله في هـذه الأيام، وسنعرض لبعض ذلك الحوار.

يقول الإمام مالك ، رحمه الله: واعلم - رحمك الله - بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة لما عليه الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك، حقيق بأن تخاف على نفسك.. فانظر رحمك الله فيما كتبت لك، واعلم أني أرجو أن لا يكون قد دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله وحده والنظر لك، فأنزل كتابي منزلته، فإنك تعلم «أني لم آلك نصحا».

ويجيب الإمام الليث عن هـذه الألفاظ والمعاني الطيبة بمثلها قائلا: قد أصبت بالذي كتبت به من ذلك، ووقع مني بالموقع الذي تحب.. ثم يقول: وقد بلغنا عنكم شيء من الفتيا، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني، فتخـوفت أن تكون استثقلت ذلك فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت... ثم يبين الإمام الليث أنه ثابت على رأيه مخالف في ذلك رأي الإمام مالك في العديد من المسائل والآراء دون مجاملة أو مداراة على حساب الحق، ثم يختم كتابه بقوله: وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وإن نأت الديار فهذه منـزلتك عندي ورأيك فيه فاستيقنه، ولا تترك الكتابة إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك.



[4] [ ص: 83 ] إن هـذه النمـاذج الحوارية الرائعـة تدعو الناس إلى أن يرجعوا إلى أدب الإسلام في الحـوار بدل أن ينصب بعـض الناس أنفسهم أوصياء على الأمة وعقولها وتفكيـرها، فيتهمـون هـذا ويفسقـون ذاك، ويشيعون الخوف من المشـاركة في الفـكر وإبداء الرأي، حتى توقـف العلماء عن الخوض في كثيـر مما يحتاج إليه الناس من اجتهاد، وأقفلت بسبب ذلك أبواب الحوار بالتي هـي أحسن لتفتح بدلا عنها أبواب الصراع والشغب والمشاجرة.

2- حسن الصمت والإصغاء

الصمت هـو السـكوت بعد الكلام وتقديم الفكرة، أما الإصغاء فهو الاستماع، ولكي يتحـقق حسن الصمت والإصغاء في المحاورة فإن ذلك يتطلب عدة أمور هـي: السـكوت، والانتباه، وعدم مقاطعة الطرف الآخر، والتأمـل والربط والمقارنة.. وسنبين أهمية كل من الصمت والإصغاء.



[5]

- الصمت:

الصمت بالنسبة للحوار ليس موقفا سلبيا، وإنما هـو إجراء إيجابي يمثل خطوة نحو الكلام الصائب، وفي هـذا تقول العرب: «إذا أردت أن تقول الصواب في اللحظة المناسبة فعليك أن تسكت أغلب الوقت»، كما أن الصمت غالبا ما يكون طريقا إلى العلم والحلم، يقول أحد الحكماء: «إذا [ ص: 84 ] جالست العلماء فأنصت لهم، وإذا جالست الجهال فأنصت لهم أيضا، فإن في إنصاتك للعلماء زيادة في العلم، وفي إنصاتك للجهال زيادة في الحلم».

- الإصغاء:

كما أن الإصغاء أدب رفيع وخلق حسن يوصل إلى الفهم والتفهم، فإن من حسن الأدب أن لا تغالب أحدا على كلام، وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه، وإذا حدث بحديث فلا تنازعه إياه ولا تقتحم عليه فيه. وقد جاء في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه ، قال أحد الحكماء لابنه: «يا بني: تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث، وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول.»



[6] .

ومن هـنا يتضح أن حسن الصمت والإصغاء دليل على احترام الآخرين وعدم الانتقاص منهم، وهو أدب رفيع من آداب الحوار والمناظرة.

3- التواضـع

التواضع أدب من آداب العلماء، وصفة من صفاتهم الكريمة؛ ولأن الحوار مهنة العلماء وصنعتهم فلا بد أن يتصف المتحاورون بالتواضع الذي يفتح الطريق أمام الطرف (الآخر) ويتيح له المجال لإبداء الرأي والفكرة، [ ص: 85 ] له في علمه، وتنبيها له أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هـو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة».



[7]

ويتحقق التواضع بعدم الثناء على النفس، وفي هـذا يقول الله تعالى: ( فلا تزكوا أنفسكم هـو أعلم بمن اتقى ) (النجم:32) ، جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي : قيل لحكيم ما الصدق القبيح ؟ قال: ثناء المرء على نفسه، ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه بالقوة والغلبة والتقدم بالفضل على الأقران، ولا ينفك في أثناء المناظرة عن قوله: لست ممن يخفى عليه أمثال هـذه الأمور، وأنا المتفنن في العلوم كلها والمستقل بالأصول وحفظ الأحاديث وغير ذلك، مما يتمدح به تارة على سـبيل الصلف، وتارة للحاجة إلى ترويج كلامه، ومعلوم أن الصلف والتمدح مذمومان شرعا وعقلا



[8] . فالغزالي يعتبر أن هـذه الأساليب نوع من أنواع الكبر والغرور، وهي منافية للتواضع الذي يجب أن يتصف به العلماء وأهل الفكر.

إن من الحكمة في الحوار أن يتجنب المحاور الحديث عن نفسه، أو عن أولاده، أو عن أعماله وإنجازاته، أو عن الدعوات التي تلقاها ورفضها؛ لأن شر المتحدثين من آثر الحديث عن أحواله وأكثر الكلام عن نفسه، فإن فعل ذلك فإنه يفقد شرط الحوار الناجح. [ ص: 86 ]

4- احترام شخصية المحاور

ويتم احترام شخصية المحاور من خلال الأمور التالية



[9] :

أ- اهتمـام المحاور بالطرف (الآخر) اهتماما وديا بالانتباه لكلامه، وعدم اللجـوء إلى تجاهله أو الشـرود والانشـغال عنه بشـخص آخر أو بموضوع آخر.

ب- تحاشي تحقـير الطرف (الآخر) ، أو اللجوء إلى النقد الشخصي فيما يخص سيرته الفردية أو العائلية، وتجنب استخدام اليد دفعا أو تهديدا.

ج- فسح المجال أمام الطرف (الآخر) للدفاع عن وجهة نظره كاملة، والتعامل مع طروحاته بصـدر رحب عن طريق إتاحة الوقت الكافي لعرضها وبيانها.

وبهذا يكون من أدب الحوار احترام آدمية الإنسان وإنسانيته، بغض النظر عن الاختلاف في الرأي والتباين في الفكرة والتباعد في وجهات النظر.

5- الحوار بهدوء وروية

لأن الانفعال والتوتر النفسي في الحوار يعني بالنتيجة فشل المحاورة وعدم الإفادة منها، فلا داعي للاستمرار فيها، بل إن ضرر الحوار الذي يسوده الانفعال يكون أكثر من نفعه.

وهذا يعني أن يكون الحوار مبنيا على المرونة والتسامح، فقد يكون المحاور على خطأ في الفكرة أو المعلومة التي يطرحها ولكن المرونة والهدوء [ ص: 87 ] يعملان على استمرار الحوار واستكمال موضوعاته، أما التوتر والتعصب فهي حالات لاتشجع على الحوار ولا تخدم أهدافه، وإذا جـرى الحوار في ظل تلك الأجواء فمصيره إلى الإخفاق والفشل.

ولتحقيق ذلك ينبغي على المحـاور أن يكون صوته هـادئا دون ارتفاع أو صراخ حتى لا ينقلب الحوار إلى مهاترات كلامية عقيمة



[10] .

6- الحوار بمودة واحترام

فقد روى أبو هـريرة ( عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أنه قـال: «الكلمة الطيبة صدقة )



[11] كما أن الذي يأتـي للحـوار والمناظرة إنما يأتي ليقنع أو يقتنع، ولم يأت للاحتراب أو الاعـتداء، وكلما أبدى المحاور مودة أكثر واحتراما أعمـق للطرف (الآخر) كان اسـتمرار الحـوار أكثر نفعا وفائدة.

ومن ضوابط الحـوار الذي يقوم على المودة والاحترام أن يتجنب كل منهما السخرية والاستهزاء وكل ما يشعر باحتقار المحاور وازدرائه لصاحبه، أو وصمه بالجهل أو قلة الفهم.

بعد هـذا كله نقول: إن مراعاة هـذه الآداب والأخلاق أثناء الحوار يضمن حوارا علميا رزينا بعـيدا عن المهاترات الكلامية، والألفاظ البذيئة، والأساليب القبيحة التي تؤدي بالنهاية إلى فشل الحوار وانعدام أهدافه. [ ص: 88 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية