الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فبشرناه بغلام ؛ أي: بذكر في غاية القوة؛ التي ينشأ عنها الغلمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا الوصف ربما أفهم الطيش؛ وصفه بما أبقى صفاءه؛ ونفى كدره؛ فقال: حليم ؛ أي: لا يعجل بالعقوبة مع القدرة؛ لأنه في غاية الرزانة؛ والثبات؛ فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما؛ يتبين به أنه سر أبيه: "إن إبراهيم لحليم"؛ والحلم لا يكون إلا بعد العلم؛ ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم؛ وهو اتساع الصدر لمساوئ الخلق؛ ومدانئ أخلاقهم؛ وهذا الولد هو إسماعيل - عليه السلام -؛ بلا شك؛ لوجوه: منها وصفه بالحليم؛ ووصف إسحاق - عليه السلام - في سورة "الحجر"؛ بالعليم؛ ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة؛ حيث كان شابا يرجو الولد؛ وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى؛ وهو الذي كان بمكة موضع الذبح؛ فجعلت [ ص: 262 ] أفعاله في ذبحه مناسك للحج؛ في "منى"؛ كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة - أول أمره؛ عندما أشرف على الموت من العطش -؛ مناسك ومعالم هناك؛ وأما إسحاق - عليه السلام - فأتته البشرى؛ فجأة؛ وهو لا يرجو الولد؛ لكبره؛ ويأس امرأته؛ ولذلك راجع في أمره؛ ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس؛ ولو كان هو الذبيح لذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصفه؛ حين سئل عن الأكرم؛ فقال: "يوسف نبي الله؛ ابن نبي الله؛ ابن نبي الله؛ ابن خليل الله"؛ والرواية التي وردت بالإشارة إلى أنه الذبيح ضعيفة؛ بل صرح شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأن في سندها وضاعا؛ ولأن هذه السورة سورة التنزيه؛ فأحق الناس بالذكر فيها - كما سلف - أعرق الناس في قدم التجريد؛ وهو أولى الناس بذلك؛ من حين كان حملا؛ إلى أن عولج ذبحه؛ ولم يذكر ظاهرا؛ فلو لم يكن المراد بهذا الكلام؛ لكان ترك في هذه السورة - التي حالها هذا - من هو أرسخ الناس في الوصف المقصود بها؛ وذلك خارج عن نهج البلاغة؛ التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال؛ بل هذا الحال لا يقتضي ذكر إسحاق - عليه السلام -؛ لأنه لم يعلم له تجرد متفق عليه؛ وما كان ذكره إلا لبيان جزاء إبراهيم - عليه السلام - لما اقتضاه مقامه في الإحسان؛ في باب التجريد والفناء؛ والله الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية