الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أبق عبد فجاء به رجل وقال : لم أجد معه شيئا ) من المال ( صدق ) ولا شيء عليه ( ولمن رده ) خبر قوله الآتي أربعون درهما ( إليه من مدة سفر ) فأكثر [ ص: 289 ] ( وهو ) أي والحال أن الراد ولو صبيا أو عبدا لكن الجعل لمولاه ( ممن يستحق الجعل ) قيد به لأنه لا جعل لسلطان وشحنة وخفير ووصي يتيم وعائله ومن استعان به كإن وجدته فخذه فقال نعم أو كان في عياله وابن وأحد الزوجين مطلقا زيلعي وشريك ونتف [ ص: 290 ] و وهبانية ولوالجية ، فالمستثنى أحد عشر ( أربعون درهما ) فبطل صلحه فيما زاد عليها ( ولو بلا بشرط ) استحسانا . ولو رد أمة ولها ولد يعقل الإباق فجعلان نهر بحثا ( وإن لم يعدلها ) عند الثاني لثبوته بالنص فلذا عول عليه أرباب المتون ( إن أشهد أنه أخذه ليرده ) وإلا لا شيء له [ ص: 291 ] ( و ) لراده ( من أقل منها بقسطه ، وقيل يرضخ له برأي الحاكم ) أو يقدر باصطلاحهما ( به يفتى ) تتارخانية بحر ( ولو من المصر ) فيرضخ له أو يقسطه كما مر ( وأم ولد ومدبر ) ومأذون ( كقن ) في الجعل .

التالي السابق


( قوله : صدق ) أي بيمينه كافي ( قوله : من مدة سفر ) الظاهر أن المعتبر في هذه المسافة ما بين مكان الأخذ ومكان سيد العبد ، سواء أبق من مكان سيده [ ص: 289 ] أو غيره ، كما يشعر به قول الهداية : ومن رد الآبق على مولاه من مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا فقد اعتبر مكان الرد ومكان المولى ، وعليه فلو خرج في حاجة لمولاه مسافة يومين ثم أبق منها مسافة يوم فأخذه رجل ورده على مولاه فله أربعون درهما اعتبارا لمكان المولى والظاهر أيضا كما أفاده ط أن المعتبر في مكان المولى المكان الذي يحصل فيه الرد عليه ، حتى لو لحقه المولى وقد سار يوما فلقيه الواجد بعدما سار يومين فله جعل اليومين فقط ( قوله : ولو صبيا أو عبدا إلخ ) جملة معترضة بين اسم إن وخبرها ، وهو قوله ممن يستحق الجعل ، ودخل في هذا التعميم ما إذا تعدد الراد كائنين ، فيشتركان في الأربعين إذا رداه إلى مولاه ، وما إذا رداه بنفسه أو بنائه كما إذا دفعه إلى رجل وأمره أن يأتي به إلى مولاه وأن يأخذ منه الجعل ، وما إذا اغتصبه منه رجل وجاء به إلى مولاه وأخذ جعله ثم جاء الآخذ وبرهن أنه أخذه من مسيرة سفر فله الجعل ويرجع المولى على الغاصب بما دفعه إليه ; لأنه أخذه بغير حق ( قوله : ممن يستحق الجعل ) بأن لم يكن ممن يعمل متبرعا ، بخلاف المتبرع إما لوجوب ذلك العمل عليه كالسلطان أو أحد نوابه ، أو لكونه يحفظ مال سيد العبد كوصي اليتيم وعائله ، أو لكونه ممن جرت العادة برده عليه تبرعا ، إما لاستعانة به ; لأنه ممن في عياله أو لزوجية أو بنوة أو شركة ( قوله : وشحنة ) هو حافظ المدينة ا هـ . ح ( قوله : وخفير ) هو بمعنى المعاهد : أي من يعاهدك على النصرة ، ولعل المراد به من ينصبه الحاكم في الطريق لدفع القطاع عن المسافرين ، ثم رأيت نقلا عن الحموي أن المراد به هنا الحارس ( قوله : وعائله ) أي من يعول اليتيم ويربيه في حجره بلا وصاية ( قوله : فقال نعم ) كذا شرطه في التتارخانية معللا بأنه قد وعد له الإعانة بحر . قال المقدسي : والظاهر أنه ليس بشرط ; لأن الظاهر منه التبرع بالعمل حيث لم يشرط عليه جعلا . ا هـ .

قلت : وفيه نظر ، فإن عدم شرط الجعل لا يدل على التبرع وإلا لزم شرطه في كل المواضع ، بخلاف ما إذا استعان به ووعده الإعانة فإن إجابته بالقول لما طلب دليل التبرع تأمل ( قوله : أو كان في عياله ) عطف عن استعان وشمل أحد الأبوين إذا رد عبد الابن فلا جعل له إذا كان في عيال الابن كحكم بقية المحارم كما في الهداية وشروحها كفاية البيان والمعراج والفتح والعناية ، وكذا في البزازية والجوهرة والقهستاني والنهر ، على خلاف ما في البحر والمنح ، حيث سوى بين الأبوين والابن ، ومثله قول الحاوي القدسي ، إذا كان الراد في عيال مالك الغلام لا جعل له ، وإلا فله الجعل سواء كان أجنبيا أو ذا رحم محرم إلا الوالدين والمولودين ( قوله : وابن ) عطف على سلطان ح ( قوله : مطلقا ) أي سواء كان الابن في عيال الأب وأحد الزوجين في عيال الآخر أو لا . قال الزيلعي ; لأن رد الآبق على المولى نوع خدمة للمولى وخدمة الأب مستحقة على الابن فلا تقابل بالأجرة وكذا خدمة أحد الزوجين الآخر . ا هـ . ح ( قوله : وشريك ) ; لأن عمله يكون في حصته وحصة شريكه بلا تمييز فلا أجر له كمن استأجر شريكه على حمل الحمل المشترك بينهما لا يستحق أجرا ، ومنه ما في الولوالجية لو جاء به وارث الميت ، إن أخذه وسار به ثلاثة أيام وسلمه في حياة المولى يستحق الجعل إن لم يكن في عياله وإن سلمه بعد موته وليس ولد المولى ولا في عياله وكان معه وارث آخر .

قال محمد له الجعل في حصة شركائه . وقال أبو يوسف لا ، وقيل قول أبي حنيفة كقول محمد ا هـ ملخصا . [ ص: 290 ] قلت : ولعل وجه الخلاف أنه إن نظر إلى أن العمل الموجب للجعل وهو سير ثلاثة أيام حصل في حياة المولى قبل أن يصير الراد شريكا وجب الجعل ، وإن نظر إلى أن الاستحقاق بالتسليم وهو لم يحصل إلا بعد الموت والاشتراك لم يجب الجعل ، ويؤيد الثاني عدم استحقاق الجعل في موت مولى أم الولد والمدبر كما يأتي قريبا تأمل ( قوله : و وهبانية ) كذا في بعض النسخ . والذي رأيته في عدة نسخ ورهبان ، وهكذا رأيته معزيا إلى نسخةالشارح وهو الصواب ; لأن الشارح عزاه للولوالجية والذي رأيته فيها ورهبان وشحنة ، وهكذا رأيته في التجنيس . والظاهر أنه في عرفهم اسم لنوع ممن يرهب منه من أهل الولايات بقرينة ذكره مع الشحنة ، وحينئذ يتم قول الشارح فالمستثنى أحد عشر ، فإن به يتم العدد فافهم ( قوله : أربعون درهما ) بوزن سبعة مثاقيل فتح ، وإن أنفق أضعافها بغير أمر القاضي كافي الحاكم .

أما لو أنفق بأمره فإن له الأربعين مع جميع ما أنفق فلا يستحق الأربعين فقط إلا إذا كان إنفاقه بغير أمر القاضي ، وبه سقط اعتراضه في الدر المنتقى على شارح الوهبانية بأن تعبيره بلفظ غير من سبق القلم ( قوله : فبطل صلحه فيما زاد عليها ) ; لأنه زيادة على ما ثبت بالنص كما بطل صلح القاتل فيما زاد على الدية . قال في البحر : بخلاف الصلح على الأقل ; لأنه حط منه ( قوله : استحسانا ) والقياس أن لا يكون له شيء إلا بالشرط كما إذا رد بهيمة ضالة أو عبدا ضالا . وجه الاستحسان أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعوا على أصل الجعل . واختلفوا في مقداره ، فأوجبنا الأربعين في مدة السفر وما دونها فيما دونه جمعا بين الروايتين نهر ( قوله : ولو رد أمة إلخ ) اعلم أنه في كافي الحاكم عمم أولا في وجوب الجعل في رد الآبق فقال بالغا أو غير بالغ . ثم قال : وإذا أبقت الأمة ولها صبي رضيع فردها رجل كان له جعل واحد ، فإن كان ابنها غلاما قد قارب الحلم فله الجعل ثمانون درهما ا هـ . قال في الفتح : لأن من لم يراهق لم يعتبر آبقا ا هـ ومقتضاه أن المراد بقوله : أو غير بالغ هو المراهق .

ووفق في البحر بين عبارتي الكافي بأن الولد إن كان مع أحد أبويه اشترط كونه مراهقا : أي اشترط ذلك لوجوب جعل آخر لرد الولد ، وإن لم يكن مع أحدهما لا يشترط أن يكون مراهقا ، لكن يشترط عقله لقول التتارخانية : وما ذكر من الجواب في الصغير محمول على ما إذا كان يعقل الإباق وإلا فهو ضال لا يستحق له الجعل . ا هـ . ووفق في النهر بأن قوله قد قارب الحلم غير قيد ، لقول شارح الوهبانية : اتفق الأصحاب أن الصغير الذي يجب الجعل برده في قول محمد هو الذي يعقل الإباق .

وحاصله أنه لا يشترط كونه مراهقا في وجوب الجعل برده سواء كان مع أحد أبويه أو وحده ، بل الشرط أن يعقل الإباق ، فبحث النهر إنما هو تقييد الولد في مسألة الكافي بكونه يعقل الإباق إشارة إلى أنه المراد من قوله قد قارب الحلم ( قوله : لثبوته بالنص ) فلا يحط منه لنقصان القيمة كصدقة الفطر لا يحط منها لو كانت قيمة الرأس أنقص من صدقة الفطر قاله العيني . وقال محمد : يقضي بقيمته إلا درهما ; لأن المقصود إحياء مال المالك فلا بد أن يسلم له شيء تحقيقا للفائدة . وذكر صاحب البدائع والإسبيجابي الإمام مع محمد فكان هو المذهب بحر . والذي عليه المتون مذهب أبي يوسف كما لا يخفى ، فينبغي أن يعول عليه لموافقته للنص والله تعالى أعلم منح ط ( قوله : إن أشهد إلخ ) شرط لاستحقاق الجعل المذكور ، وهذا عند التمكن من الإشهاد وإلا فلا يشترط ، والقول قوله في أنه لم يتمكن منه كما صرح به في التتارخانية بحر . وفي الكافي : أخذه رجل فاشتراه [ ص: 291 ] منه رجل وجاء به فلا جعل له ; لأنه لم يأخذه ليرده وكذلك الهبة والوصية والميراث ، وإن أشهد حين اشتراه أنه إنما اشتراه ليرده على صاحبه ; لأنه لا يقدر عليه إلا بالشراء فله الجعل ا هـ ويكون متبرعا بالثمن نهر ( قوله : بقسطه ) أي بأن تقسم الأربعون على الأيام لكل يوم ثلاثة عشر وثلث نهر ( قوله : يرضخ له ) يقال رضخ له كمنع وضرب أعطاه عطاء غير كثير قاموس ، واعتبار رأي الحاكم عند عدم الاصطلاح على شيء ط ( قوله : به يفتى ) أي بالرضخ برأي الحاكم ( قوله : ولو من المصر ) تعميم لقوله ومن أقل . وعنه أنه لا شيء له قهستاني عن المضمرات ، لكن الأول هو المذكور في الأصل وهو الصحيح بحر ( قوله : كقن في الجعل ) أي في وجوبه ، وهذا إذا رد المدبر وأم الولد في حياة المولى كما أفاده ما بعده .




الخدمات العلمية