الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني في الزيادة : وهي آثار محضة وأعيان .

                                                                                                                                                                        أما الأثر ، فالقول الجملي فيه : أن الغاصب لا يستحق بتلك الزيادة شيئا ، لتعديه ، ثم ينظر ، إن لم يمكن رده إلى الحالة الأولى رده بحاله وأرش النقص إن نقصت قيمته ، وإلا [ ص: 46 ] فإن رضي به المالك ، لم يكن للغاصب رده إلى ما كان وعليه أرش النقص ، إلا أن يكون له غرض في الرد إلى الحالة الأولى فله الرد ، وإن ألزمه المالك الرد إلى الحالة الأولى لزمه ذلك وأرش النقص إن نقص عما كان قبل تلك الزيادة . فإذا تقرر ذلك ، فمن صوره طحن الحنطة ، وقصارة الثوب وخياطته ، وضرب الطين لبنا ، وذبح الشاة وشيها . ولا يملك الغاصب المغصوب بشيء من هذه التصرفات ، بل يردها مع أرش النقص إن نقصت القيمة . وإنما تكون الخياطة من هذا القسم إذا خاط بخيط المالك . فإن خاط بخيط الغاصب فستأتي نظائره إن شاء الله تعالى . ثم في الطحن والقصارة ، والذبح ، والشي ، لا يمكن الرد إلى ما كان . وكذا في شق الثوب وكسر الإناء ، ولا يجبر على رفء الثوب وإصلاح الإناء ، لأنه لا يعود إلى ما كان ، ولو غزل القطن ، رد الغزل وأرش النقص إن نقص . ولو نسج الغزل ، فالكرباس للمالك مع الأرش إن نقص ، وليس للمالك إجباره على نقضه إن لم يمكن رده إلى الحالة الأولى ونسجه ثانيا ، فإن أمكن كالخز ، فله إجباره . فإن نقضه ونقصت قيمته عن قيمة الغزل في الأصل غرمه ، ولا يغرم ما زاد بالنسج ، لأن المالك أمره بنقضه . فإذا نقضه بغير إذن المالك ضمنه أيضا . ولو غصب نقرة وضربها دراهم ، أو صاغها حليا ، أو غصب نحاسا أو زجاجا فجعله إناء ، فإن رضي المالك به رده كذلك ، ولم يكن له رده إلى الحالة الأولى ، إلا أن يضرب الدراهم بغير إذن السلطان ، أو على غير عياره ، لأنه حينئذ يخاف التغيير ، وحيث منع من الرد إلى ما كان فخالف ، فهو كإتلاف الزوائد الحاصلة عند الغصب . ولو أجبره المالك على رده إلى ما كان لزمه . فإذا امتثل لم يغرم النقصان الحاصل بزوال الصنعة ، لكن لو نقص عما كان بما طرأ وزال ضمنه .

                                                                                                                                                                        وأما الأعيان ، فمن صورها صبغ الثوب . وتقدم عليه صورتين .

                                                                                                                                                                        إحداهما : إذا غصب أرضا وبنى فيها ، أو غرس ، أو زرع ، كان لصاحب [ ص: 47 ] الأرض أن يكلفه القلع مجانا . ولو أراد الغاصب القلع لم يكن للمالك منعه ، فإنه عين ماله . وإذا قلع ، لزمه الأجرة . وفي وجوب التسوية والأرش ، ما سبق في نقل التراب . وإن نقصت الأرض لطول مدة الغراس ، فهل يجمع بين أجرة المثل وأرش النقص ، أو لا يجب إلا أكثرهما ؟ فيه الخلاف السابق فيما إذا أبلى الثوب بالاستعمال . ولو أراد المالك أن يتملك البناء والغراس بالقيمة ، أو يبقيهما أو الزرع بالأجرة ، فهل على الغاصب إجابته ؟ وجهان . أحدهما : نعم ، كالمستعير ، وأولى ، لتعديه . وأصحهما : لا ، لتمكنه من القلع بلا غرامة . ولو غصب من رجل أرضا وبذرا فزرعها به ، فللمالك أن يكلفه إخراج البذر من الأرض ويغرمه أرش النقص ، وليس للغاصب إخراجه إذا رضي به المالك .

                                                                                                                                                                        الصورة الثانية : إذا زوق الأرض المغصوبة ، نظر إن كان بحيث لو نزع لحصل منه شيء ، فللمالك إجباره على النزع . فإن تركه الغاصب ليدفع عنه كلفة النزع ، فهل يجبر المالك على قبوله ؟ وجهان . ولو أراد الغاصب نزعه ، فله ذلك ، وسواء كان للمنزوع قيمة أم لا ، فإن نزع فنقصت عما كانت قبل التزويق ، لزمه الأرش . أما إذا كان التزويق تمويها لا يحصل منه عين بالنزع ، فليس للغاصب النزع إن رضي المالك . وهل للمالك إجباره عليه ؟ وجهان . أحدهما : نعم ، لأنه قد يريد تغريمه أرش النقص الحاصل بإزالته . وأصحهما : لا ، كالثوب إذا قصره . إذا ثبت هذا ، عدنا إلى الصبغ فنقول : للصبغ الذي يصبغ به المغصوب ثلاثة أحوال . الأول : أن يكون للغاصب ، فينظر ، إن كان الحاصل تمويها محضا فحكمه ما ذكرناه في التزويق . وإن حصل فيه عين مال بالانصباغ فهو ضربان .

                                                                                                                                                                        الأول : إذا لم يمكن فصله ، فقولان . القديم : أنه يفوز به صاحب الثوب [ ص: 48 ] تشبيها له بالسمن . والمشهور : أنهما شريكان ، فينظر ، إن كانت قيمة الثوب مصبوغا مثل قيمته وقيمة الصبغ قبل الصبغ جميعا ، بأن كانت قيمة الثوب عشرة ، وقيمة الصبغ عشرة ، وصار يساوي مصبوغا عشرين ، فهو بينهما بالسوية . فلو رغب فيه راغب بثلاثين ، كانت بينهما نصفين . وإن نقصت قيمته مصبوغا عنهما ، بأن صارت قيمته في الصورة المذكورة خمسة عشر ، فقد أطلق الأكثرون : أن النقص محسوب من الصبغ ، لأن الثوب هو الأصل ، والصبغ وإن كان عينا ، فهو تابع ، فيكون الثوب المصبوغ بينهما أثلاثا ، الثلثان للمغصوب منه . وفي الشامل والتتمة : أنه إن كان النقص لانخفاض سعر الثياب ، فالنقص محسوب من الثوب . وإن كان لانخفاض سعر الأصباغ ، فمن الصبغ وكذا لو كان النقص بسبب العمل . ويمكن أن يكون هذا التفصيل مراد من أطلق . وإن كانت قيمته بعد الصبغ عشرة ، انمحق الصبغ ، ولا حق فيه للغاصب . وإن نقصت قيمته مصبوغا عن قيمة الثوب ، فصار يساوي ثمانية ، فقد ضاع الصبغ ونقص من الثوب درهمان ، فيرده مع درهمين . وإن زادت قيمته مصبوغا عليهما ، بأن صار ثلاثين ، فمن أطلق الجواب في طرف النقص ، أطلق هنا أن الزيادة بينهما على نسبة ماليهما . ومن فصل قال : إن كان ذلك لارتفاع سعر الثياب ، فالزيادة لصاحب الثوب ، وإن كان لارتفاع سعر الأصباغ ، فهي للغاصب ، وإن كان للعمل والصنعة فهي بينهما ، لأن الزيادة بفعل الغاصب تحسب للمغصوب منه .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : إذا أمكن فصله عن الثوب ، فقد حكي قول عن القديم : أنه إن كان المفصول لا قيمة له ، فهو كالسمن ، والمشهور أنه ليس كالسمن ، فلا يفوز به المغصوب منه . وهل يملك إجبار الغاصب على فصله ؟ وجهان . أصحهما عند العراقيين : لا . وأصحهما : عند البغوي وطائفة : نعم ، واختاره الإمام ونقل القطع [ ص: 49 ] به عن المراوزة . وإنما الخلاف ، فيما إذا كان الغاصب يخسر بالفصل خسرانا بينا ، وذلك قد يكون لضياع المنفصل بالكلية ، وقد يكون لحقارته بالإضافة إلى قيمة الصبغ . ومن جملة الضياع ، أن يحدث في الثوب نقص بسبب الفصل لا تفي بأرشه قيمة المفصول . ولو رضي المغصوب [ منه ] بإبقاء الصبغ وأراد الغاصب فصله ، فله ذلك إن لم ينقص الثوب ، وكذا إن نقص على الأصح . وإن تراضيا على ترك الصبغ بحاله ، فهما شريكان . وكيفية الشركة ، كما سبق في الضرب الأول .

                                                                                                                                                                        فرع لو ترك الغاصب الصبغ للمالك ، فهل يجبر كالنعل في الدابة المردودة بالعيب لأنه تابع أم لا ، كالبناء والغراس إذا تركه الغاصب ؟ وجهان . قال الروياني : أصحهما : الأول . قال الرافعي : بل الثاني أقيس وأشبه .

                                                                                                                                                                        قلت : الثاني أصح . وممن صححه صاحب التنبيه قال الجرجاني : ويجري الوجهان فيما لو غصب بابا وسمره بمسامير للغاصب وتركها للمالك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ثم قيل : الوجهان فيما إذا أمكن فصل الصبغ ، وفيما إذا لم يمكن . والأصح : تخصيصهما بما إذا أمكن وقلنا : إن الغاصب يجبر على الفصل ، وإلا فهما شريكان لا يجبر واحد منهما على قبول هبة الآخر . وعلى هذا فطريقان . أحدهما : أن الوجهين فيما إذا كان يتضرر بالفصل ، إما لما يناله من التعب ، وإما لأن المفصول يضيع كله أو أكثره ، فإن لم يكن كذلك ، لم يجب القبول بحال . والثاني أن الوجهين فيما إذا [ ص: 50 ] كان الثوب ينقص بالفصل نقصا لا تفي بأرشه قيمة الصبغ المفصول ، فإن وفت لم يجب القبول بحال وإن تعب أو ضاع معظم المفصول . قال الإمام : وإذا قلنا : يجب القبول على المغصوب منه ، لم يشترط تلفظه بالقبول . وأما الغاصب ، فلا بد من لفظ من جهته يشعر بقطع الحق ، كقوله : أعرضت عنه ، أو تركته ، أو أبرأته عن حقي ، أو أسقطته ، قال : ويجوز أن يعتبر اللفظ المشعر بالتمليك .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو بذل المغصوب منه قيمة الصبغ ، وأراد أن يتملكه على الغاصب ، فهل يجاب إليه ؟ فيه أوجه - سواء كان الصبغ يمكن فصله أم لا - أحدهما : نعم كالغراس في العارية . وأصحهما : لا ، لأن المعير لا يتمكن من القلع مجانا فكان محتاجا إلى التملك بالقيمة ، وهنا بخلافه . والثالث : إن كان الصبغ بحيث لو فصل لم يحصل منه شيء ينتفع به فنعم ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        متى اشتركا في الثوب المصبوغ ، فهل لأحدهما الانفراد ببيع ملكه [ منه ] ؟ وجهان ، كبيع دار لا ممر لها . والأصح : المنع . ولو أراد مالك الثوب البيع ، ففي المهذب والتهذيب : أنه يجبر الغاصب على موافقته ويباع ، وإن أراد الغاصب البيع لم يجبر صاحب الثوب على الأصح ، لئلا يستحق بتعديه إزالة ملك غيره . وفي النهاية : القطع بأن واحدا منهما لا يجبر كسائر الشركاء .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يكون الصبغ مغصوبا من غير مالك الثوب ، فإن لم يحدث بفعله نقص ، فلا غرم عليه ، وهما شريكان في الثوب المصبوغ كما سبق في المالك [ ص: 51 ] والغاصب . وإن حدث ، نظر ، إن كانت قيمته مصبوغا عشرة ، والتصوير كما سبق ، فهو لصاحب الثوب ، ويغرم الغاصب الصبغ للآخر . وإن كانت خمسة عشر ، فوجهان . أحدهما : [ يكون ] الثوب بينهما نصفين ، ويرجعان على الغاصب بخمسة . وأصحهما : أثلاثا على ما سبق في الحال الأول . فإن كان مما يمكن فصله ، فلهما تكليف الغاصب الفصل . فإن حصل بالفصل نقص فيهما أو في أحدهما عما كان قبل أن يصبغ غرمه الغاصب ، ولصاحب الثوب وحده طلب الفصل أيضا إذا قلنا : المالك يجبر الغاصب عليه في الحال الأول . هذا إذا حصل بالانصباغ عين مال في الثوب . فإن لم يحصل إلا تمويه ، فالحكم كما سبق في التزويق .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يقاس بما ذكرناه في الحالتين ثبوت الشركة فيما إذا طير الريح ثوب إنسان في إجانة صباغ فانصبغ ، لكن ليس لأحدهما أن يكلف الآخر الفصل ولا التغريم إن حصل نقص في أحدهما ، إذ لا تعدي . ولو أراد صاحب الثوب تملك الصبغ بالقيمة ، فعلى ما سبق .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أن يكون الصبغ مغصوبا من مالك الثوب أيضا . فإن لم يحدث بفعله نقص ، فهو للمالك ، ولا غرم على الغاصب ، ولا شيء له إن زادت القيمة ، لأن الموجود منه أثر محض . وإن حدث بفعله نقص ضمن الأرش ، وإذا أمكن الفصل ، فللمالك إجباره عليه . وليس للغاصب الفصل إذا رضي المالك .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا كان الصبغ للغاصب وقيمته عشرة ، وقيمة الثوب عشرة ، فبلغت قيمة الثوب مصبوغا [ ص: 52 ] ثلاثين ، ففصل الغاصب الصبغ ، ونقصت قيمة الثوب عن عشرة لزمه ما نقص ، وكذا ما نقص عن خمسة عشر إن فصل بغير إذن المالك وطلبه ، وإن فصل بإذنه ، لم يلزمه إلا نقص العشرة . ولو عادت قيمته مصبوغا إلى عشرة لانخفاض السعر وكان النقص في الثياب والأصباغ على نسبة واحدة ، فالثوب بينهما بالسوية كما كان ، والنقص داخل عليهما جميعا ، وليس على الغاصب غرامة ما نقص مع رد العين ، لكن لو فصل الصبغ بعد رجوع القيمة إلى عشرة ، فصار الثوب يساوي أربعة ، غرم ما نقص ، وهو خمس الثوب بأقصى القيم . والمعتبر في الأقصى خمسة عشر إن فصل بنفسه ، وعشرة إن فصل بطلب المالك .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية