الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أن يؤدي فرضه ) لأن الصحابة رضي الله عنهم تقلدوه وكفى بهم قدوة ، ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف .

التالي السابق


( قوله ولا بأس بالدخول في القضاء لمن يثق بنفسه أن يؤدي فرضه ، لأن الصحابة رضوان الله عليهم تقلدوا ولأنه فرض كفاية لكونه أمرا بالمعروف ) أما إن الصحابة تقلدوا فحديث معاذ معروف . وكذا علي رضي الله عنهما لرواية أبي داود عن علي قال { بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا ، فقلت : يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال : إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه حري أن يتبين لك القضاء ، قال : فما زلت قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد } ورواه أحمد وإسحاق بن راهويه والطيالسي والحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وأخرجه ابن ماجه وفيه { فضرب صدري وقال : اللهم أهد قلبه وثبت لسانه ، قال : فما شككت } الحديث ، وصححه أيضا الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال { بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه إلى اليمن فقال : علمهم الشرائع واقض بينهم } الحديث ، وصححه ثم قلد علي شريحا الإمام .

وأما إنه فرض كفاية فقد قدمناه ، غير أن مقتضاه أن يكون الدخول فيه مستحبا ; وعبارة لا بأس أكثر استعمالها في المباح وما تركه أولى . وحاصل ما هنا أنه إن لم يأمن على نفسه الحيف : أي الجور أو عدم إقامة العدل كره له الدخول كراهة تحريم لأن الغالب الوقوع في محظوره حينئذ وإن أمن أبيح رخصة ، والترك هو العزيمة لأنه وإن أمن فالغالب هو خطأ ظن من ظن من نفسه الاعتدال فيظهر منه خلافه فيؤخره عن الاستحباب . هذا إذا لم تنحصر الأهلية فيه ، وإن انحصرت صار فرض عين وعليه ضبط نفسه ، إلا إن كان السلطان ممن يمكن أن يفصل الخصومات ويتفرغ لذلك . وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من جعل على القضاء فقد ذبح بغير سكين } حسنه الترمذي ، وأخرجه ابن عدي في الكامل من حديث ابن عباس .

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من استقضي فقد ذبح بغير سكين } وحكي أن بعض القضاة استخف بهذا الحديث ثم دعا من يسوي له لحيته فبينما هو يحلق له تحت لحيته في حلقومه إذا عطس القاضي فألقى الموسى رأسه ، وقد جاء في التحذير من القضاء آثار .

وقد اجتنبه أبو حنيفة وصبر على الضرب والسجن حتى مات في السجن وقال : البحر عميق فكيف أعبر بالسباحة ؟ فقال أبو يوسف : البحر عميق والسفينة وثيق والملاح عالم . فقال [ ص: 261 ] أبو حنيفة : كأن بك قاضيا . وقول أبي حنيفة كقول أبي قلابة : ما وجدت القاضي إلا كسابح في بحر فكم يسبح حتى يغرق . وكان دعي للقضاء فهرب حتى أتى الشام فوافق موت قاضيها ، فهرب حتى أتى اليمامة . واجتنبه كثير من السلف . وقيد محمد بن الحسن نيفا وثلاثين يوما أو نيفا وأربعين يوما ليتقلده . وقد أخرج مسلم { عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال اليتيم } وأخرج أبو داود عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { القضاة ثلاثة : اثنان في النار ، وواحد في الجنة : رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، ورجل عرف الحق فلم يقض وجار في الحكم فهو في النار ، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار } وفي صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { يدعى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره } وأخرج الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من ولي عشرة فحكم بينهم بما أحبوا أو كرهوا جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه ، فإن حكم بما أنزل الله ولم يرتش في حكمه ولم يحف فك الله عنه غله ، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى في حكمه وحاف فيه شدت يساره إلى يمينه ثم رمي به في جهنم } وروى النسائي عن مكحول : لو خيرت بين ضرب عنقي وبين القضاء لاخترت ضرب عنقي .

وأخرج ابن سعد في الطبقات قال : استعمل أبو الدرداء على القضاء فأصبح الناس يهنونه بالقضاء ، فقال : أتهنونني بالقضاء وقد جعلت على رأس مهواة منزلتها أبعد من عدن وأبين . وأما ما في البخاري { سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل } فلا ينافي مجيئه أولا مغلولة يده إلى [ ص: 262 ] عنقه إلى أن يفكها عدله فيظله الله تعالى في ظله فلا يعارض .




الخدمات العلمية