الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 367 ] ( والشهادة في الحدود يخير فيها الشاهد بين الستر والإظهار ) لأنه بين حسبتين إقامة الحد والتوقي عن الهتك ( والستر أفضل ) لقوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده { لو سترته بثوبك لكان خيرا لك } وقال عليه الصلاة والسلام { من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة } وفيما نقل من تلقين الدرء عن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم دلالة ظاهرة على أفضلية الستر [ ص: 368 ] ( إلا أنه يجب أن يشهد بالمال في السرقة فيقول : أخذ ) إحياء لحق المسروق منه ( ولا يقول سرق ) محافظة على الستر ، ولأنه لو ظهرت السرقة لوجب القطع والضمان لا يجامع القطع فلا يحصل إحياء حقه .

التالي السابق


( قوله والشهادة في الحدود ) أي الأداء في الحدود يخير فيها بين الأداء والترك لأن النهي في القرآن وإن كان عاما لكن ثبت تخصيصه بالشهادة على الحدود لما فيه من الستر ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي شهد عنده { لو سترته بثوبك لكان خيرا لك } كذا ذكره المصنف ، والمعروف في الحديث أن هذا قاله صلى الله عليه وسلم لهزال .

ذكره مالك في الموطإ عن يحيى بن سعيد : بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم يقال له هزال { لو سترته بردائك لكان خيرا لك } والمراد بمرجع الضمير في قوله سترته ماعز رضي الله عنه . روى أبو داود عن يزيد بن نعيم عن أبيه { أن ماعز بن مالك أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات فأمر برجمه وقال لهزال : لو سترته بردائك لكان خيرا لك } وإن هزالا هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويقر عنده ولم يكن شاهدا ، لأن ماعزا إنما حد بالإقرار ، أخرج أبو داود عن ابن المنكدر أن هزالا أمر ماعزا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره . ورواه الحاكم [ ص: 368 ] وزاد .

وقال شعبة : قال يحيى : فذكرت هذا الحديث بمجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال فقال يزيد : هذا هو الحق ، هذا حديث جدي وقال : صحيح الإسناد . ورواه ابن سعد في الطبقات ، وفيه { قال في هزال بئسما صنعت ، لو سترته بطرف ردائك لكان خيرا لك ، قال : يا رسول الله لم أدر أن في الأمر سعة } ومنه قوله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة { من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة } رواه البخاري ومسلم .

وتلقين الدرء من رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي تلقين ما يحصل به الدرء دلالة ظاهرة على قصده إلى الستر والستر يحصل بالكتمان ، فكان كتمان الشهادة بالحدود مخصوصا من عموم تحريمه ، فمن ذلك ما أسند الطحاوي إلى أبي هريرة قال { أتي بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله إن هذا سرق فقال له ما إخاله سرق } .

وروى أبو داود { أنه صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع ، فقال له صلى الله عليه وسلم : ما إخالك سرقت ، قال فأعاد مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع } الحديث .

وروي عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ، قال : لا } الحديث قدمناه في الحدود . فإن قلت : كيف صح لك القول بتخصيص العام من الكتاب بهذه وهي أخبار آحاد ، وأيضا شرط التخصيص عندكم المقارنة ومن أين ثبت لك ذلك . قلت : هذه الأخبار الواردة في طلب الستر بلغت مبلغا لا تنحط به عن درجة الشهرة لتعدد متونها مع قبول الأمة لها فصح التخصيص بها ، أو هي مستند الإجماع على تخيير الشاهد في الحدود ، فثبوت الإجماع دليل ثبوت المخصص .

وأما المقارنة فإنما هي شرط التخصيص في نفس الأمر ، وهذا التخصيص الذي ادعيناه هنا ليس بذاك بل هو جمع للمعارضة على ما كتبناه في التعارض من كتاب تحرير الأصول من أن الجمع بين العام والخاص إذا تعارضا بأن يحمل على تخصيصه به ، فإذا وجب للجمع حمله على ذلك تضمن الحكم منا بأنه كان مقارنا أو أنها ليست تخصيصات أول كما أنا إذا رجحنا في التعارض المحرم على المبيح وثبت صحتهما تضمن حكمنا أن المبيح كان مقدما على التحريم فنسخ حكما لوجوب ترجيح المحرم وإن لم يعلم تقدمه بعلم تاريخه ، وكثيرا ما يعترض بعض متأخري الشارحين على كثير من المواضع المحكوم فيها بالتخصيص من أصحابنا بأن المقارنة غير معلومة فلا يثبت التخصيص ، ومرادهم في تلك الأماكن ما ذكرنا ، هذا كله إذا نظرنا إلى مجرد إطلاق قوله تعالى { ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا } فأما إذا قيدناه بما إذا دعوا للشهادة في الدين المذكور أول الآية : أي قوله تعالى { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } .

ثم قال { ولا يأبى الشهداء } يعني بذلك الدين فظاهر ( قوله إلا أنه يجب أن يشهد بالمال ) استدراك من قوله مخير في الحدود ، فإنه يقتضي أن لا يشهد بالسرقة فقد يتبادر أنه لا يشهد فيها [ ص: 369 ] مطلقا لاستلزامه الحد فقال يجب أن يشهد بالمال إحياء لحق مالكه على وجه لا يوجب الحد فيقول أخذ المال ولا يقول سرق ، فإن الأخذ أعم من كونه غصبا أو على ادعاء أنه ملكه مودعا عند المأخوذ منه وغير ذلك ، فلا تستلزم الشهادة بالأخذ مطلقا ثبوت الحد بها مع أن فيه مصلحة للمسروق منه ، لأنه إذا قال سرق فثبتت السرقة وجب القطع وبه ينتفي ضمان المال إن كان أتلفه




الخدمات العلمية