الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 414 ] قال ( ولا من يفعل الأفعال المستحقرة كالبول على الطريق والأكل على الطريق ) لأنه تارك للمروءة ، وإذا كان لا يستحي عن مثل ذلك لا يمتنع عن الكذب فيتهم .

التالي السابق


( قوله ولا من يفعل الأفعال المستحقرة ) وفي بعض النسخ المستقبحة ، وفي بعضها المستخفة وإن لم تكن في نفسها محرمة .

والمستخفة بفتح الخاء وكسرها : أي التي يستخف الناس فعلها ، أو الخصلة التي تستخف الفاعل فيبدو منه ما لا يليق ، وعلى هذا المعنى قوله تعالى { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } وذلك ( كالأكل على قارعة الطريق ) يعني بمرأى الناس ، والبول عليها ، ومثله الذي يكشف عورته ليستنجي من جانب بركة والناس حضور ، وقد كثر ذلك في ديارنا من العامة وبعض من لا يستحي من الطلبة ، والمشي بسراويل فقط ، ومد رجله عند الناس ، وكشف رأسه في موضع يعد فعله خفة وسوء أدب وقلة مروءة وحياء ، لأن من يكون كذلك لا يبعد منه أن يشهد بالزور .

وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام { إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت } وعن الكرخي : لو أن شيخا صارع الأحداث في الجامع لم تقبل شهادته لأنه سخف . وأما أهل الصناعات الدنيئة كالكساح وهو الذي يسمى في عرف ديار مصر قنواتيا ، والزبال والحائك والحجام فقيل لا تقبل ، وبه قال الشافعي وأحمد ، ووجه بكثرة خلفهم الوعد وكذبهم ، ورأيت أكثر مخلف للوعد السمكري . والأصح تقبل لأنها قد تولاها قوم صالحون ، فما لم يعلم القادح لا يبنى على ظاهر الصناعة ، ومثله النخاسون والدلالون فإنهم يكذبون كثيرا زيادة على غيرهم مع خلفهم فلا يقبل إلا من علم عدالته منهم .

وقيل لا تقبل شهادة بائع الأكفان . قال شمس الأئمة : هذا إذا ترصد لذلك العمل ، فأما إذا كان يبيع الثياب ويشترى منه الأكفان فتقبل لعدم تمنيه الموت للناس والطاعون . وقيل لا تقبل شهادة الصكاكين لأنهم يكتبون هذا ما اشترى فلان أو باع أو أجر وقبض المبيع قبل وقوعه فيكون كذبا ، ولا فرق في الكذب بين القول والكتابة . والصحيح تقبل إذا كان غالب أحوالهم الصلاح ، فإنهم غالبا [ ص: 415 ] إنما يكتبون بعد صدور العقد وقبل صدوره يكتبون على المجاز تنزيلا له منزلة الواقع ليستغنوا عن الكتابة إذا صدر المعنى بعدها . ورد بعض العلماء شهادة القروي والأعرابي ، وعامة العلماء تقبل إلا بمانع غيره . ولا تقبل شهادة الطفيلي والرقاص والمجازف في كلامه والمسخرة بلا خلاف . وفي الحديث { ويل للذي يحدث ويكذب كي يضحك منه الناس ، ويل له ويل له } وقال نصير بن يحيى : من يشتم أهله ومماليكه كثيرا في كل ساعة لا تقبل وإن كان أحيانا تقبل ، وكذا الشتام للحيوان كدابته ، وأما في ديارنا فكثيرا يشتمون بائع الدابة فيقولون قطع الله يد من باعك ، ولا من يحلف في كلامه كثيرا ونحوه . وحكي أن الفضل بن الربيع شهد عند أبي يوسف فرد شهادته فشكاه إلى الخليفة ، فقال الخليفة : إن وزيري رجل دين لا يشهد بالزور فلم رددت شهادته ؟ قال : لأني سمعته يوما قال للخليفة : أنا عبدك ، فإن كان صادقا فلا شهادة للعبد ، وإن كان كاذبا فكذلك ، فعذره الخليفة . والذي عندي أن رد أبي يوسف شهادته ليس لكذبه ، لأن قول الحر لغيره أنا عبدك مجاز باعتبار معنى القيام بخدمتك ، وكوني تحت أمرك ممتثلا له على إهانة نفسي في ذلك والتكلم بالمجاز على اعتبار الجامع ووجه الشبه ليس كذبا محظورا شرعا ولذا وقع المجاز في القرآن ، ولكن رده لما يدل عليه خصوص هذا المجاز من إذلال نفسه وتملقه لأجل الدنيا فربما يعز هذا الكلام إذا قيل للخليفة فعدل إلى الاعتذار بأمر يقرب من خاطره . والحاصل فيه أن ترك المروءة مسقط للعدالة . وقيل في تعريف المروءة أن لا يأتي الإنسان بما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل . وقيل السمت الحسن وحفظ اللسان وتجنب السخف والمجون والارتفاع عن كل خلق دنيء . والسخف : رقة العقل من قولهم ثوب سخيف إذا كان قليل الغزل . وعن أبي حنيفة لا تقبل شهادة البخيل . وقال مالك : إن أفرط لأنه يؤديه إلى منع الحقوق .




الخدمات العلمية