الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 393 ] قال ( ومن كان في يده شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له ) لأن اليد أقصى ما يستدل به على الملك إذ هي مرجع الدلالة في الأسباب كلها فيكتفي بها . وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط مع ذلك أن يقع في قلبه أنه له [ ص: 394 ] قالوا : ويحتمل أن يكون هذا تفسيرا لإطلاق محمد رحمه الله في الرواية فيكون شرطا على الاتفاق . وقال الشافعي رحمه الله : دليل الملك اليد مع التصرف ، وبه قال بعض مشايخنا رحمهم الله لأن اليد متنوعة إلى إنابة وملك .

قلنا : والتصرف يتنوع أيضا إلى نيابة وأصالة . ثم المسألة على وجوه : إن عاين المالك الملك حل له أن يشهد ، وكذا [ ص: 395 ] إذا عاين الملك بحدوده دون المالك استحسانا لأن النسب يثبت بالتسامع فيحصل معرفته ، وإن لم يعاينها أو عاين المالك دون الملك لا يحل له .

التالي السابق


( قوله ومن كان في يده شيء إلخ ) صورتها : رأى عينا سوى ما استثناه في يد إنسان ثم رآها في يد غيره والأول يدعي عليه الملك وسعه أن يشهد للمدعي لأن الملك يعرف بالظاهر واليد بلا منازع دليل ظاهر فيه ، ولا دليل سواه لأن غاية ما يمكن فيه أن يعاين سبب الملك من الشراء والهبة وموت المورث ، وشيء من هذه الأسباب لا يفيد ملك الثاني حتى يكون ملك الأول .

وعن أبي يوسف أنه يشترط في حل الشهادة بالملك مع ذلك أن يقع في قلبه أنه له . وفي الفوائد الظهيرية أسند هذا القول إلى أبي يوسف ومحمد ولفظه وعنهما قال المصنف : قالوا يعني المشايخ : [ ص: 394 ] يحتمل أن يكون هذا تفسيرا لإطلاق محمد في الرواية . قال الصدر الشهيد : ويحتمل أن يكون قوله قول الكل وبه نأخذ .

وقال أبو بكر الرازي : هذا قولهم جميعا . ووجهه أن الأصل في حل الشهادة اليقين لما عرف ، فعند تعذره يصار إلى ما يشهد به القلب لأن كون اليد مسوغا بسبب إفادتها ظن الملك ، فإذا لم يقع في القلب ذلك لا ظن فلم يفد مجرد اليد ، ولهذا قالوا : إذا رأى إنسان درة ثمينة في يد كناس أو كتابا في يد جاهل ليس في آبائه من هو أهل له لا يسعه أن يشهد بالملك له فعرف أن مجرد اليد لا يكفي .

وقال الشافعي : دليل الملك اليد مع التصرف ، وبه قال بعض مشايخنا وهو الخصاف ، وهو قول مالك ، لأن اليد تتنوع إلى ملك ونيابة وضمان .

قلنا : وكذا التصرف أيضا فلم يزل احتمال عدم الملك بالتصرف ، ثم ينبغي أن يطلق الشهادة حتى لو قال إنه شهد بناء على اليد لا تقبل ، وهذا لأن معاينة اليد مطلق للشهادة مجوز لها لا موجب على الشاهد أن يشهد والقاضي يلزمه القضاء بالملك بالشهادة ، ولهذا قلنا : إذا كانت دار في يد رجل يتصرف فيها تصرف الملاك بالعمارة والهدم ونحو ذلك بيعت دار إلى جانبها فأراد أن يأخذها بالشفعة لا يقضي القاضي له بذلك وإن ثبت عنده أنها في يده يتصرف فيها إذا أنكر المشتري أن الدار التي في يده ملكه لأن العيان ليس سببا للوجوب بل للجواز ( قوله ثم إن عاين الملك إلخ ) حاصله أن المسألة على أربعة أوجه : الأول أن يعاين الملك والمالك ، وهو إن عرف المالك باسمه ونسبه [ ص: 395 ] ووجهه وعرف الملك بحدوده ورآه في يده بلا منازع ثم رآه في يد آخر فجاء الأول وادعاه وسعه أن يشهد له وظهر أن المراد بالملك المملوك .

الثاني أن يعاين الملك دون المالك بأن عاين ملكا بحدوده ينسب إلى فلان بن فلان الفلاني وهو لا يعرفه بوجهه ونسبه ثم جاء الذي نسب إليه الملك وادعى ملك هذا المحدود على شخص حل له أن يشهد استحسانا . والقياس أن لا تجوز لأن الجهالة في المشهود به تمنع جواز الشهادة ، فكذا في المشهود له . وجه الاستحسان أن الملك المشهود به معلوم والنسب يثبت بالتسامع فصار المالك معلوما بالتسامع أيضا . وأورد عليه أنه يلزم أن تكون الشهادة بالملك بالتسامع . وأجيب أن الشهادة بالملك هنا ليست قصدا بل بالنسب وفي ضمنه ثبوت الملك فيجوز ، وهنا كذلك لأنه سمع أن هذا الملك لفلان بن فلان فحصل له العلم بنسب المالك بالتسامع وثبت ملكه في ضمنه والاعتبار بالمتضمن لا المتضمن ، ولا يخفى أن مجرد ثبوت نسبه بالشهادة عند القاضي لم يوجب ثبوت ملكه لتلك الضيعة لولا الشهادة به ، وكذا المقصود ليس إثبات النسب بل الملك في الضيعة ، والله أعلم .

وعلى هذا قال الناضحي : فإن كان المالك امرأة لا تخرج ولا يراها الرجال ، فإن كان الملك مشهورا أنه لها جاز أن يشهد عليه لأن شهرة الاسم كالمعاينة .

الثالث أن لا يعاين الملك ولا المالك بل سمع أن لفلان بن فلان الفلاني ضيعة في قرية كذا حدودها كذا وهو لم يعرف تلك الضيعة ولم يعاين يده عليها لا يحل له أن يشهد له بالملك لأنه مجازف في هذه الشهادة .

الرابع أن يعاين المالك بأن عرفه معرفة تامة كما ذكرنا وسمع أن له ضيعة في كورة كذا وهو [ ص: 396 ] لا يعرف تلك الضيعة بعينها لا يسعه أن يشهد له بالملك فيها لأنه لم يحصل له العلم بالمحدود




الخدمات العلمية