الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 388 ] قال ( ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه إلا النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به ) وهذا استحسان . والقياس أن لا تجوز لأن الشهادة [ ص: 389 ] مشتقة من المشاهدة وذلك بالعلم ولم يحصل فصار كالبيع .

وجه الاستحسان أن هذه أمور تختص بمعاينة أسبابها خواص من الناس ، ويتعلق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون ، [ ص: 390 ] فلو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامع أدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام ، بخلاف البيع لأنه يسمعه كل أحد ، وإنما يجوز للشاهد أن يشهد بالاشتهار وذلك بالتواتر أو بإخبار من يثق به كما قال في الكتاب .

ويشترط أن يخبره رجلان عدلان أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم . وقيل في الموت يكتفي بإخبار واحد أو واحدة لأنه قلما يشاهد غير الواحد إذ الإنسان يهابه ويكرهه فيكون في اشتراط العدد بعض الحرج ، ولا كذلك النسب والنكاح ، وينبغي أن يطلق أداء الشهادة [ ص: 391 ] أما إذا فسر للقاضي أنه يشهد بالتسامع لم تقبل شهادته كما أن معاينة اليد في الأملاك تطلق الشهادة ، ثم إذا فسر لا تقبل كذا هذا .

ولو رأى إنسانا جلس مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم حل له أن يشهد على كونه قاضيا وكذا إذا رأى رجلا وامرأة يسكنان بيتا وينبسط كل واحد منهما إلى الآخر انبساط الأزواج كما إذا رأى عينا في يد غيره . ومن شهد أنه شهد دفن فلان أو صلى على جنازته فهو معاينة ، حتى لو فسر للقاضي قبله ثم قصر الاستثناء في الكتاب لهذه الأشياء الخمسة ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف . وعن أبي يوسف رحمه الله آخرا أنه يجوز في الولاء لأنه بمنزلة النسب لقوله عليه الصلاة والسلام { الولاء لحمة كلحمة النسب } [ ص: 392 ] وعن محمد رحمه الله أنه يجوز في الوقف لأنه يبقى على مر الأعصار ، إلا أنا نقول الولاء يبتنى على زوال الملك ولا بد فيه من المعاينة فكذا فيما يبتنى عليه .

وأما الوقف فالصحيح أنه تقبل الشهادة بالتسامع في أصله دون شرائطه ، لأن أصله هو الذي يشتهر .

التالي السابق


( قوله ولا يجوز للشاهد أن يشهد بشيء لم يعاينه ) أي لم يقطع به من جهة المعاينة بالعين أو السماع إلا في النسب والموت والنكاح والدخول وولاية القاضي فإنه يسعه أن يشهد بهذه الأمور إذا أخبره بها من يثق به من رجلين عدلين أو رجل وامرأتين ، ويشترط كون الإخبار بلفظ الشهادة ، وفي الموت إذا قلنا يكفي الواحد لا يشترط لفظ الشهادة بالاتفاق ، أو بتواتر الخبر بذلك وقيل في الموت يكتفي بإخبار واحد عدل أو واحدة وهو المختار ، بخلاف ما سواه لأنه قلما يشاهد عند الموت إلا واحد ، لأن الإنسان يهابه ويكرهه ، فإذا رآه واحد عدل ، ويعلم أن القاضي لا يقضي بذلك وهو عدل أخبره غيره ، ثم يشهدان بموته ، ولا بد أن يذكر ذلك المخبر أنه شهد موته أو جنازته أو دفنه حتى يشهد الآخر معه ، وكذا لو جاء خبر موت رجل وصنع أهله ما يصنع بالموتى لم يسع لأحد [ ص: 389 ] أن يشهد بموته إلا إن شهد موته أو سمع ممن شهد ذلك ، ذكره في الفتاوى .

والاكتفاء بالعدلين نقل عن أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة رحمه الله : لا يشهد حتى يسمع من جماعة ، وقال الخصاف في الكل : حتى يسمع من العامة وتتابع الأخبار ويقع في قلبه تصديق ذلك من غير تفصيل .

وفي الفصول عن شهادات المحيط في النسب أن يسمع أنه فلان بن فلان من جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب عند أبي حنيفة ، وعندهما إذا أخبره عدلان أنه ابن فلان تحل الشهادة ، وأبو بكر الإسكاف كان يفتي بقولهما وهو اختيار النسفي . وفي النكاح لم يشترط المصنف مع رؤية دخوله إلى آخره أن يسمع من الناس أنها زوجته وكذا القضاء وذكره غيره وهو الحق .

ثم قول أحمد كقولنا فيما سوى الدخول . وقول للشافعي ورواية عن مالك . والمصنف لم يحك خلافا بل جعل قياسا واستحسانا . فالقياس عدم الجواز لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة ، فإن الاشتقاق انتظام الصيغتين معنى واحدا بعد اشتراكهما في الحروف الأصول ، والمشاهدة منتفية : يعني القطع فلا تجوز كما في البيع وغيره ، كما لو سمع بالاستفاضة أنه باع لم تجز الشهادة عليه بالبيع وكذا غيره .

وجه الاستحسان أن العادة جارية بذلك ، وذلك سبب أنه لا طريق إلى معرفة هذه الأشياء سوى الخبر ، إذ لم تجر العادة بحضور الناس الولادة ، إنما يرون الولد مع أمه أو مرضعته وينسبونه إلى الزوج فيقولون هو ابن فلان ، وكذا عند الموت لا يحضره غالبا إلا الأقارب ، فإذا رأوا الجنازة والدفن حكموا بموت فلان ، وكذا النكاح لا يحضره كل أحد وإنما يخبر بعضهم بعضا أن فلانا تزوج فلانة ، وكذا الدخول لا يعلم إلا بأمارات فإن الوطء لا يشاهد ، وكذا ولاية السلطان للقاضي لا يحضرها إلا الخواص ، وإنما يحضرون جلوسه وتصديه للأحكام ، وإذا كانت العادة أن علم هذه الأشياء غالبا لا يحصل إلا لبعض أفراد وأن الناس يعتمدون فيه على الخبر كان الخبر مسوغا للشهادة وإلا ضاعت حقوق عظيمة تبقى على مر الأعصار كالنسب والنكاح والإرث والموت ، ويترتب عليها أمور كثيرة مثل العدة والإحصان وكمال المهر في الدخول ، والحاسم لمادة الشغب الإجماع على وجوب الشهادة بأن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما وأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه دخل بها ، وأن عليا رضي الله عنه ابن أبي طالب وعمر رضي الله عنه بن الخطاب ، وأن شريحا كان قاضيا ، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنه ماتوا وإن لم نعاين شيئا من ذلك .

وحكي في الخلاصة عن ظهير الدين [ ص: 390 ] في الدخول : لا تجوز الشهادة فيه بالتسامع ، فلو أراد أن يثبت الدخول يثبت الخلوة الصحيحة .

ونص الخصاف على أنه يجوز بالتسامع لأنه أمر يشتهر ، بخلاف الزنا فإنه فاحشة تستر ( قوله وينبغي أن يطلق أداء الشهادة ) فيشهد أنه ابنه أو أمير أو قاض ، أما إذا فسر للقاضي أنه شهد عن تسامع بين الناس لم تقبل شهادته ، كما أنه إذا شهد بالملك لمعاينة اليد حل له وتقبل ، ولو فسر فقال لأني رأيتها في يده في وقت من الأوقات لا تقبل . وفي الفوائد الظهيرية : شهدا على النكاح والنسب وفسرا وقالا سمعنا ذلك من قوم لا يتصور اجتماعهم على الكذب لا تقبل . وقيل تقبل .

وقال صاحب العمدة : لو قالا أخبرنا بذلك من نثق به تقبل وجعله الأصح واختاره الخصاف . وفي فصول الأسروشني : لو شهد على النكاح فسألهما القاضي هل كنتما حاضرين فقالا لا تقبل شهادتهما لأنه يحل لهما الشهادة بالتسامع ، وقيل لا تقبل كأنهما قالا لم نعاين . ولو شهدا وقالا سمعنا لا تقبل فكذا هذا . ولو شهدا أنهما دفناه أو قالا شهدنا جنازته تقبل .

ولو شهد بالموت واحد وآخر بالحياة تأخذ امرأته بشهادة الموت لأنها تثبت العارض ، ذكره رشيد الدين في فتاواه . وفي الخلاصة : لو أخبرها واحد بموته واثنان بحياته ، إن كان المخبر بالموت عدلا [ ص: 391 ] ويشهد أنه عاين موته أو جنازته وسعها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها .

ثم قال : هذا إذا لم يؤرخا ، فإن أرخا وتاريخ شاهدي الحياة بعد تاريخ شاهد الموت فشهادة شاهدي الحياة أولى وكذا بقتله انتهى . وأطلق في وصايا عصام الدين فقال : شهدا أن زوجها مات أو قتل وآخران على الحياة فالموت أولى .

وفي فتاوى الفضلي : شهد عندها عدل أن زوجها مات أو قتل أو ارتد والعياذ بالله هل لها أن تتزوج ؟ روايتان : في السير لا يجوز ، وفي الاستحسان يجوز .

ومن فروع التسامع في فتاوى النسفي : قال رجل لامرأة : سمعت أن زوجك مات لها أن تتزوج إن كان المخبر عدلا ، فإن تزوجت ثم أخبرها جماعة أنه حي إن صدقت الأول يصح النكاح . وفي المنتقى لم يشترط تصديقها بل شرط عدالة المخبر فقط ، وقد يخال أن هذا خلاف ما تقدم .

وقد يفرق بأن ذلك في حل إقدامها وعدمه ، وهذا بعد أن تزوجت واستحقها الزوج الثاني ظاهرا ، والشيء بالشيء يذكر إذا أخبرها واحد عدل أو شهد عند وليها بأن زوجها طلقها أو مات عنها ووقع في قلبها صدقه لها أن تعتد وتتزوج . وذكر رشيد الدين أيضا فيه إنما تجوز الشهادة بالتسامع على الموت إذا كان الرجل معروفا بأن كان عالما أو من العمال ، أما إذا كان تاجرا أو من هو مثله لا تجوز إلا بالمعاينة ( قوله ثم قصد الاستثناء في الكتاب ) أي استثناء القدوري حيث قال : إلا في النسب إلى آخر الأشياء [ ص: 392 ] الخمسة ينفي اعتبار التسامع في الولاء والوقف فلا تجوز الشهادة بالتسامع فيهما .

وعن أبي يوسف تجوز في الولاء بالتسامع رجع إليه ، وكان أولا يقول كقول أبي حنيفة ومحمد لا تجوز إلا أن يسمعا العتق . ثم رجع إلى أنه تجوز لقوله صلى الله عليه وسلم { الولاء لحمة كلحمة النسب } وفي النسب تجوز بالتسامع ، فكذا في الولاء ، ألا ترى أنا نشهد أن قنبرا مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونافعا مولى ابن عمر وبلالا مولى أبي بكر الصديق .

ولهما أنه ينبني على العتق ، والعتق لقوله قولا يسمع ، وكثيرا ما يقصد الإشهاد عليه لا يثبت بالتسامع فكذا ما ينبني عليه ، وليس تجويزنا بالسماع لكون الشيء مما يشتهر بل للضرورة لما ذكرنا من أن النسب لا يرى إذ لا يرى العلوق ، وكذا تقليد القاضي القضاء إلا الخواص والموت والباقي فيؤدي إلى ما ذكرنا ، ولا كذلك العتق .

وكون نافع مولى ابن عمر ونحوه من باب الإخبار الحق ، وهذا بناء على أن لا خلاف في العتق أيضا أنه لا تقبل بالتسامع ، وعليه نصشمس الأئمة . وذكر الصدر الشهيد عن الحلواني أن الخلاف ثابت في العتق أيضا عند أبي يوسف تجوز بالتسامع خلافا لهما ، وهو قول مالك وأحمد وقول للشافعي . وشرط الخصاف في الولاء على قول أبي يوسف شرطا لم يذكره محمد في المبسوط فقال : إنما تقبل إذا كان العتق مشهورا وللمعتق أبوان أو ثلاثة في الإسلام .

قال المصنف ( وأما الوقف فالصحيح أنه تقبل الشهادة بالتسامع عليه في أصله ) وقال الأقطع في شرحه : قال محمد تجوز ، وقوله لأن أصله هو الذي يشتهر ليس بذاك ، والوجه في التوجيه أنه وإن كان قولا مما يقصد الإشهاد عليه والحكم به في الابتداء لكنه في توالي الأعصار تبيد الشهود والأوراق مع اشتهار وقفيته فيبقى في البقاء سائبة إن لم تجز الشهادة به بالتسامع فمست الحاجة إلى ذلك .

وقوله فالصحيح إلخ احتراز عن قول طائفة من المشايخ . قال في الفصول : اختلف المشايخ . قال بعضهم تحل وقال بعضهم لا تحل . ومن المشايخ من قال تجوز على أصل الوقف بالتسامع لا على شرائطه ، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي ، وهو ما ذكره المصنف وليس معنى الشروط أن يبين الموقوف عليه بل أن يقول يبدأ من غلتها بكذا وكذا والباقي كذا وكذا .

وفي الفتاوى الصغرى في الفصل الثاني من كتاب الشهادات : إذا شهدوا أن هذا وقف على كذا ولم يبينوا الواقف ينبغي أن تقبل . ونص عن الشيخ الإمام ظهير الدين إذا لم يكن الوقف قديما لا بد من ذكر [ ص: 393 ] الواقف ، وإذا شهدوا أن هذه الضيعة وقف ولم يذكروا الجهة لا تجوز ولا تقبل بل يشترط أن يقولوا وقف على كذا . ثم قال : وما ذكر هنا .

وفي الأصل صورته : أن يشهدوا بالتسامع أنها وقف على المسجد أو المقبرة ، ولم يذكروا أنه يبدأ بغلتها فيصرف إلى كذا ثم ما فضل يصرف إلى كذا لا يشهد على هذا الوجه بالتسامع ، وهكذا قال المرغيناني قال : لا بد من بيان الجهة أنه وقف على المسجد أو المقبرة وما أشبه ذلك ، حتى لو لم يذكر ذلك لا تقبل شهادته .

قال : وتأويل قولهم لا تقبل الشهادة على شرائط الوقف أنه لا ينبغي للشاهد بعد ذكر الجهة أن يشهد أنه يبدأ من غلته فيصرف إلى كذا وكذا ، ولو ذكر ذلك في شهادته لا تقبل . ذكره في الذخيرة . وذكر في المجتبى والمختار أن تقبل على شرائط الوقف أيضا . وأنت إذا عرفت قولهم في الأوقاف التي انقطع ثبوتها ولم يعرف لها شرائط ومصارف أنها يسلك بها ما كانت عليه في دواوين القضاة لم تقف عن تحسين ما في المجتبى لأن ذلك هو معنى الثبوت بالتسامع




الخدمات العلمية