الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ثانيا: الوقف وتمويل بناء البيمارستانات وتشغيلها

              لعل أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن البيمارستانات هـو: من كان يمول تكاليف الإنشاء وتكاليف التشغيل ؟ ولماذا ؟!

              ولنبدأ الإجابة عن «لماذا»؟! فنقول: إن المجتمع الإسلامي قام على التعاليم الإسلامية، وبالتالي على التكافل والتعاضد والعدل والتقرب إلى الله، عز وجل ، [ ص: 80 ] بمساعدة الغني للفقير والمحتاج بدون من أو أذى، وأفضل إجابة عن هـذا السؤال نجدها في وقفية الملك المنصور قلاوون للبيمارستان المنصوري عندما قال: وهذا السعي يرجو مولانا السلطان الملك المنصوري - خلد الله ملكه - به من ربه قبوله؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه من الأخبار الصحيحة المنقـولة: ( إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) [1] ») [2] .

              ثم نأتي للإجابة عن السؤال الرئيس: من كان يمول مشاريع بناء البيمارستانات وتشغيلها ؟!

              إن الإسلام منذ ظهوره منذ خمسة عشر قرنا، قد أهدى الإنسانية مؤسستين أساسيتين لم تكن تعرفهما أو تعمل بهما: مؤسسة الزكاة، ومؤسسة الوقف.

              والعجيب، أن العالم الإسلامي اليوم، قد عطل أو غيب هـاتين المؤسستين عن دورهما الكبير في خدمة المجتمع وتحقيق المصلحة العامة لأفراده، مما كان بحق، من أهم أسباب تخلف المجتمع الإسلامي المعاصر وتدهوره، بينما أخذ العالم المتقدم اليوم في أوروبا وأمريكا - سواء كان ذلك بتخطيط أو بتلقائية، أو كان ذلك بوعي أو بغير وعي - بهاتين [ ص: 81 ] المؤسستين اللتين أسهمتا في تقدمه، بل كانتا في تصورنا من أهم أسباب نهوضه وسيادته.

              فمن المعروف أن كل أسرة أوروبية أو أمريكية، تخصص تلقائيا وبانتظام أكثر من 2% من دخلها للجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية، أي أنها من حيث لا تدري، تؤدي، ما يسمى في الإسلام، بالزكاة. كما أن رجال الأعمال والأثرياء في أوروبا وأمريكا، يوقفون تلقائيا، وكظاهرة عامة مستقرة لديهم، بعض ما يملكونه من عقار أو أوراق مالية لصالح الجمعـيات الخيرية، والمنظمات غير الحكومية، أي أنهم من حيث لا يدرون، يلتزمون بتطبيق شرع الوقف الإسلامي، وإن لم يسمونه بهذا الاسم



              [3] .

              وإذا كانت صناعة الحضارة الإسلامية قد مثلت ملحمة عظمى، نهضت بها الأمة على امتداد قرون عديدة، فإن « الوقف » قد كان المؤسسة الأم التي تولـت صنـاعة أمتـنا لهذه الحضـارة الإسلامية.. ولم تكن «الدولة» ولا «الخزائن السلطانية» هـي التي صنعت أو مولت هـذه الملحمة الحضارية العظمى، وقد يكون في الحقيقة الدامغة التي لا تقبل الجدل والتي لا تجد تفسيرا لها سوى «الوقف» تلك النهضة العلمية الصحية الفائقة في المجتمع الإسلامي، رغم عدم وجود دواوين حكومية للتعليم والصحة



              [4] . [ ص: 82 ]

              لقد كان للوقف أكبر الإسهامات في إنشاء وتشغيل تلك البيمارستانات ، وكان له دور مهم وفريد في تمويل وتجهيز المستشفيات بالإضافة إلى إقامة مبانيها، وكذلك رواتب الأطباء ومساعديهم والمختبرات، وتمويل كليات الطب وكليات الصيدلة والمتدربين فيها، مثال ذلك البيمارستان المنصوري، الذي أنشئ في عام 682هـ لعلاج الملك والمملوك، والكبير والصغير، وكان مستشفى متخصصا، يعجز الواصف عن وصف حسن ترتيبه وتنظيمه، حتى إنه ليضاهي المستشفيات الحديثة في ذلك [5] .

              وإضافة إلى إسهام الوقف في المستشفيات الكبيرة أو المتخصصة، فقد كان له دور كذلك في بناء المراكز الصحية المتنقلة، لخدمة المرضى في الأماكن النائية عن مراكز الحضارة والمدن، ومن الأوقاف الفريدة في مجال الرعاية الصحية وقف صلاح الدين لإمداد الأمهات بالحليب اللازم لأطفالهن [6] .

              أما في العصر الحديث، فقد كان لديوان الأوقاف في مصر عام 1913م أحد عشر مستوصفا وعيادة طبية، قامت بمعالجة ما يقارب مليون شخص. كما أقام المحسنون ثلاثين مشروعا طبيا خلال النصف الأول من القرن العشرين، واشترطوا الصرف عليها من أوقاف مخصصة لذلك [7] [ ص: 83 ] كما أن تسبيل المياه وبناء دور المياه العامة، يعد من أفضل الطرق الصحية في الوقاية من العديد من الأمراض التي حرص الوقف على القيام بها وتمويلها. ففي سلطنة عمان مثلا، كانت هـناك أوقاف المجائز، أي: الحمامات، التي يستخدم ريعها في تعمير المجائز، وهي حمامات عامة يتم إنشاؤها للنساء على الأفلاج (أي: الترع) ، حماية للصحة العامة للناس.

              ومن المشاريع الوقفية في العصر الحديث، العين العزيزية في جدة، التي تعد وقفا للملك عبد العزيز، رحمه الله، وذلك عندما اشترى عيونا من وادي فاطمة وأوصلها إلى جدة، وأوقفها، وأنشأ للوقف إدارة أهلية قامت بإنشاء سكن للحجاج في المطار والميناء، فأراحت الحجاج، وكونت دخلا تنفق منه على غرض الوقف الأساسي [8] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية