الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ثالثا: مساهمة الأطباء في الوقف على البيمارستانات

              كثير من البيمارستانات قام بإنشائها والصرف عليها أثرياء المجتمع العربي الإسلامي. ولكي نتصور مدى الترابط الاجتماعي بين الغني والفقير في هـذا المجتمع، علينا أن نعلم أنه في بغداد وحدها وجد في سنة ألف ومائة وستين ميلادية ما يربو على ستين بيمارستانا، وفي قرطبة ما يربو على خمسين بيمارستانا [1] [ ص: 84 ]

              ولم يكن تأسيس البيمارستانات وقفا على الخلفاء والسلاطين والرجال الأثرياء، وإنما ساهم في تأسيسها الأطباء أيضا أو أوصوا بإقامتها. فقد أشار سنان بن ثابت على المقتدر بأن يتخذ بيمارستانا ينسب إليه، فأمر بإنشائه في باب الشام وسماه البيمارستان المقتدري، وكان ينفق عليه من ماله في كل شهر مائتي دينار. وافتتح سنان بن ثابت أيضا «بيمارستان السيدة» ببغداد الذي بناه بسوق يحيى على دجلة، وذلك على نفقة السيدة أم المقتدر. قال ثابت بن سنان: «إنه لما كان في أول يوم من المحرم سنة ست وثلاثمائة، فتح والدي سنان بن ثابت بيمارستان السيدة الذي اتخذه لها بسوق يحيى، وجلس فيه ورتب المتطببين وقبل المرضى، وهو كان بناه على دجلة، وكانت النفقة عليه في كل شهر ستمائة دينار» [2] .

              وعندما نجح سنان بن ثابت في تقويم طباع الأمير بجكم، وبين له الفرق بين الخير والشر، عمل الأمير بنصيحة سنان، وأنشأ بواسط في وقت المجاعة دار ضيافة، وببغداد بيمـارستانا يعالج فيه الفقراء، ورفه الرعـية، وأنصف في معاملاتها.

              وروي أن سبب بناء بيمارستان «ميافارقين» هـو أن ابنة نصير الدولة ابن مروان مرضت وكان يحبها كثيرا، فآلى على نفسه أنها متى برئت أن يتصدق بوزنها دراهم. فلما عالجها زاهد العلماء وشفيت، أشار على نصير الدولة أن يبني بهذه الأموال بيمارستانا ينتفع به الناس، ويكون له بذلك أجر [ ص: 85 ] عظيم، فأمره ببنائه، وأنفق عليه أموالا كثيرة، ووقف له أملاكا تقوم بكفايته، وجعل فيه من الآلات وجميع ما يحتاج إليه أشياء كثيرة [3] .

              ومن مآثر الأطباء في هـذا الصدد ما رواه ابن أبي أصيبعة عن بدر الدين، ابن قاضي بعلبك، فقال: « ومما وجدته قد صنعه من الآثار الحسنة التي تبقى مدى الأيام، ونال بها من المثوبة أوفر الأقسام أنه لم يزل مجتهدا حتى اشترى دورا كثيرة ملاصقة للبيمارستان الكبير الذي أنشأه ووقفـه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ، رحمه الله، وتعب في ذلك تعبا كثيرا واجتهد بنفسه وماله حتى أضاف هـذه الدور المشتراة إليه وجعلها من جملته وأكبر بها قاعات كانت صغيرة للمرضى، وبناها أحسن البناء، وشيدها وجعل الماء فيها جاريا، فتكمل بها البيمارستان ، وأحسن في فعله غاية الإحسان» [4] .

              ومن مكارم أخلاق الأطباء ما حدث به علي بن محمد بن أبي الصلحي عن القطيعي، أحد أطباء مصر المشهورين، أنه حول أحد دوره إلى ما يشبه البيمارستان يأوي إليه المرضى من الفقراء، فيعالجهم ويقدم لهم الأغذية والأدوية، ويقوم بخدمتهم مجانا، وكان ينفق أكثر مدخوله في هـذا السبيل [5]

              ويلاحظ أن مداخيل الأطباء من البيمارستانات، كانت زهيدة جدا إذا ما قورنت بمداخيلهم من القصور الملكية، مثال ذلك ما ذكر في وقفية الجامع. [ ص: 86 ]

              القيمري في دمشق. فقد جاء في كتاب خطط الشام ما يأتي: «قرأت في كتاب الجوامع والمدارس صورة وقف البيمارستان القيمري فإذا فيه: هـذا وقف أبي الحسن بن أبي الفوارس القيمري على بيمارستانه في الصالحية على معالجة المرضى والمعاجين والأشربة وأجرة الطبيب. يصرف إلى الطبيب في كل شهر: الواحد سبعون درهما ونصف غرارة قمح، والأدنى ستون درهما ونصف غرارة قمح، وللمشارف في كل شهر أربعون درهما ونصف غرارة قمح، وللكحال في كل شهر خمسة وأربعون ونصف غرارة قمح»



              [6] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية