الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال ابن حجر أيضا : اختلف أهل الكلام في أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا ؟ فقالت المعتزلة : لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت . والكلام المنسوب إلى الله تعالى قائم بالشجرة . وقالت الأشاعرة : كلامه ليس بحرف ولا صوت ، وأثبتت الكلام النفسي ، وحقيقته : معنى قائم بالنفس وإن اختلفت عنه العبارة ، كالعربية والعجمية ، واختلافها لا يدل على اختلاف المعبر عنه ، والكلام النفسي هو ذلك المعبر عنه . وأثبت الحنابلة أن الله تكلم بحرف وصوت . أما الحروف : فللتصريح بها في ظاهر القرآن ، وأما الصوت : فمن منع منه قال : إن الصوت هو الهواء المتقطع المسموع من الحنجرة ، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر ، وصفات الرب بخلاف ذلك . فلا يلزم المحذور [ ص: 194 ] المذكور ، مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه . ويجوز أن يكون من غير الحنجرة ، فلا يلزم التشبيه ، وقد قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن قوم يقولون : لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت ؟ فقال لي أبي : بل يتكلم بصوت ، وهذه الأحاديث تروى كما جاءت . وذكر حديث ابن مسعود وغيره ، قال أبو العباس بن تيمية في الرد على الرافضي : اضطرب الناس في مسألة الكلام ، ولم يعرف أكثرهم قول السلف فيها ، بل يذكرون قولين وثلاثة وأقل وأكثر ، مع أنها بلغت أقوالهم فيها إلى تسعة . أحدها : أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من المعاني ، إما من العقل الفاعل عند بعضهم ، أو من غيره عند بعض آخر ، وهو قول الصابئة والمتفلسفة ، كابن سينا وأمثاله . الثاني : قول المعتزلة : أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه . الثالث : للكلابية والأشعرية ونحوها : أنه معنى واحد قائم بذات الله ، ليس بحرف ولا صوت ، والكلام الذي بين الناس عبارة عنه ، وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، فإن عبر عنه بالعربية : كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرية : كان توراة . الرابع : للسالمية وطائفة من المتكلمين والمحدثين ، أنه حروف وأصوات مجتمعة في الأزل وذكره الأشعري عن طائفة نحو السالمية ، فهو محدث مخلوق عندهم . الخامس : للكرامية ونحوهم : أنه حروف وأصوات ; لكن تكلم الله تعالى بها بعد أن لم يكن متكلما . السادس : للرازي في إشكاله مثلا ، وصاحب المعتبر : أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته . السابع : لأبي منصور الماتريدي : أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره . الثامن : لأبي المعالي ومن تبعه : أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات ، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات . التاسع : أنه يقال : لم يزل الله متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء بكلام يقوم به ، وهو يتكلم بصوت يسمع ، وأن نوع الكلام قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديما . وهذا القول : هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة . ومن أعظم القائلين به : إمامنا أحمد والبخاري وابن المبارك وعثمان بن سعيد الدارمي ونحوهم . [ ص: 195 ]

وقال الحافظ ابن حجر : نص الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية : أن كلام الله غير مخلوق ، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء ومتى شاء بلا كيف . قال القاضي : قوله : إذا شاء ، أي أن يسمعنا . قال أحمد : لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم .

ثم قال ابن حجر : وافترق أصحاب أحمد فرقتين . فمنهم من قال : كلامه لازم لذاته . والحروف والأصوات مقترنة لا متعاقبة . ويسمع كلامه من شاء ، وأكثرهم أنه يتكلم بما شاء إذا شاء . وأنه نادى موسى حين كلمه ، ولم يكن ناداه من قبل . والذي استقر عليه قول الأشعرية : أن القرآن كلام الله غير مخلوق مكتوب في المصاحف ، محفوظ في الصدور ، مقروء بالألسنة . قال تعالى ( { فأجره حتى يسمع كلام الله } ) ( { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } ) وفي الحديث { لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو كراهة أن يناله العدو } وليس المراد ما في الصدور ، بل ما في المصحف . وأجمع السلف على أن الذي بين الدفتين كلام الله تعالى . وقال بعضهم : القرآن يطلق ويراد به المقروء ، وهو الصفة القديمة ، ويطلق ويراد به القراءة . وهي الألفاظ الدالة على ذلك . وبسبب ذلك وقع الاختلاف .

وأما قولهم عن الحروف والأصوات : فمرادهم الكلام النفسي القائم بالذات المقدسة ، وهو من الصفات الموجودة القديمة . وأما الحروف : فإن كانت بحركات أو أدوات ، كاللسان والشفتين ، فهي أعراض ; وإن كانت كتابة فهي أجسام ، وقيام الأجسام والأعراض بذات الله محال ، ويلزم من أثبت ذلك أن يقول بخلق القرآن ، وهو يأبى ذلك ويفر منه . فألجأ ذلك بعضهم إلى أن ادعى قدم الحروف ، كما التزمته السالمية . ومنهم من التزم قيام ذلك بذاته . ومن شدة اللبس في هذه المسألة كثر نهي السلف عن الخوض فيها . واكتفوا باعتقاد أن القرآن غير مخلوق ، ولم يزيدوا على ذلك شيئا ، وهو أسلم الأقوال إن شاء الله تعالى وهو المستعان . وقال أبو العباس أيضا : لم يكن في كلام الإمام أحمد ولا الأئمة أن الصوت الذي تكلم به قديم ، بل يقولون : لم يزل الله متكلما إذا شاء بما شاء وكيف شاء ، كقول أحمد والبخاري [ ص: 196 ] وابن المبارك . وقال ، رادا على الرافضي : من العلماء من يقول : لم يزل الله متكلما إذا شاء وكيف شاء . كقول أئمة الحديث والسنة ، كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السلف . وقال : قد تنازع الناس في معنى كون القرآن غير مخلوق . هل المراد به أن نفس الكلام قديم أزلي كالعلم ، أو أن الله تعالى لم يزل موصوفا بأنه متكلم يتكلم إذا شاء ؟ على قولين . ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة ، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب الشافي عن أصحاب أحمد . وذكرهما أبو عبد الله بن حامد في أصوله ا هـ . وقال الحافظ زين الدين بن رجب في المناقب : ومن البدع التي أنكرها أحمد في القرآن : قول من قال : إن الله تكلم بغير صوت .

فأنكر هذا القول وبدع قائله . وقد قيل : إن الحارث المحاسبي إنما هجره أحمد لأجل ذلك . انتهى . قال أبو العباس : وهذا سبب تحذير أحمد من الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية . كما أمر بهجر القائل بأن الله لما خلق الحروف انتصبت الألف وسجدت الباء ، وشدد في التنفير عنه . ولما أظهروا ذلك أمر بهجرهم كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقي بعض كلام الحارث المحاسبي . فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك ، واشتهر علما وفضلا وحقائق وزهدا . ونقل عنه أبو بكر الكلاباذي . وقالت طائفة من الصوفية : كلام الله حروف وأصوات ، وأنه لا يعرف كلام إلا كذلك ، مع إقرارهم أنه صفة الله تعالى في ذاته ، وأنه غير محدث . قال : وهو الحارث المحاسبي ، ومن المتأخرين ابن سالم . قال ابن رجب : قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن إنكار الجهمية كلام الله لموسى ، وعن قوم أنكروا صوت الله تعالى ؟ فقال لي : بل تكلم الله بصوت . هذه الأحاديث يمرونها كما جاءت . وقال أبي : حدثنا ابن مسعود " إذا تكلم الله سمع له صوت كمر السلسلة على الصفوان " وروى الخلال عن محمد بن علي عن يعقوب بن بختان قال : سئل أحمد عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت ؟ فقال : بل تكلم بصوت . هاتان الروايتان صحتا عن الإمام أحمد بلا شك . وقال البخاري في كتابه خلق أفعال [ ص: 197 ] العباد : ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { كان يحب أن يكون الرجل خفيض الصوت } و { أن الله تعالى ينادي بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب ، فليس هذا لغير الله تعالى وفي هذا دليل على أن صوت الله تعالى لا يشبه صوت المخلوقين لأن [ صوت ] الله تعالى يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب ، وإن الملائكة يصعقون من صوته . فإذا نادى الملائكة لم يصعقوا } وقال تعالى ( { فلا تجعلوا لله أندادا } ) فليس لصفة الله ند ولا مثل ، ولا يوجد شيء من صفاته بالمخلوقين . هذا لفظه بعينه . وذكر حديثي ابن أنيس وابن مسعود ، وتقدما .

قال العلامة المرداوي . فإن قيل : أي المذاهب أقرب إلى الحق والتحقيق من الأقوال التسعة ؟ قلت : إن صحت الأحاديث بذكر الصوت فلا كلام ; في أنه أولى وأحرى وأصح من غيره ، مع الاعتقاد فيه بما يليق بجلال الله تعالى وعظمته وكبريائه من غير تشبيه بوجه ما ألبتة . ثم قال : وقد صحت الأحاديث بحمد الله تعالى ، وصححها الأئمة الكبار المعتمد عليهم ، كأحمد والبخاري ، وابن المبارك والرازي وغيرهم ، حتى الحافظ ابن حجر في زمننا . قال : وقد صحت هذه الأحاديث كلها في ذلك . وكذلك صححها غيرهم من المحدثين وغيرهم . وفيه كفاية وهداية ، ولولا أن الصادق المصدوق المعصوم قال ذلك ، لما قلناه ولا حمنا حوله . كما قال السهروردي ذلك في عقيدته . فإن صفات الله سبحانه وتعالى لا تعرف إلا بالنقل المحض من الكتاب العزيز ، أو من صاحب الشريعة صلوات الله وسلامه عليه . فتصحيح هؤلاء وإثباتهم للأحاديث بذكر الصوت أولى من نفي من نفى أنه لم يأت في حديث واحد ذكر الصوت من وجوه . منها : أن المثبت مقدم على النافي .

ومنها عظم المصحح وجلالة قدره وكثرة اطلاعه ، لا سيما في إثبات صفة الله تعالى مع الزهد العظيم والقدم المتين . أفيليق بأحمد والبخاري ونحوهما من السلف الصالح إثبات صفة لله من غير دليل ويدينون الله بها . ويعتقدونها ويهجرون من يخالفها من غير دليل صح عندهم ؟ فما الحامل لنا أو لهم على ذلك ؟ وهل يعتقد هذا مسلم في مسلم فضلا عن أحمد والبخاري . ثم الأسلم - بعد هذا المذهب من المذاهب التسعة - ما قاله ابن حجر : الاكتفاء باعتقاد أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولم يزيدوا [ ص: 198 ] على ذلك شيئا . وقال : وهذا أسلم الأقوال ، لشدة اللبس ونهي السلف عن الخوض فيها . انتهى . والظاهر - والله أعلم - أن السلف إنما اكتفى بذلك حسما لمادة الكلام فيه ، وما يترتب عليه من وقوع الناس فيما وقعوا فيه من الشبه الموجبة لخبط العقائد وسدا للذريعة ، لقول أحمد : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي . ومن قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق : مبتدع . وإنما أطلنا لأن غالب الناس في زمننا يزعمون أن القائل بأن الله يتكلم بصوت وحرف قديمين غير متعاقبين من فوق السماء بقدرته ومشيئته إذا شاء وكيف شاء ، كما قرر ، يكون كافرا . فهذا أحمد والبخاري وغيرهما ممن ذكرنا صرحوا بذلك . وقد سموا مخالفه مبتدعا . واستدلوا بحديث أم سلمة وغيره . وقد أجمع على ذلك أصحاب أحمد من زمنه إلى زمننا ، ولم يغادر منهم أحد ، كما قال إمامهم . وصنفوا في ذلك كثيرا جدا . وإذا نظر المنصف في كلام العلماء المقتدى بهم . واطلع على ما قالوه في هذه المسألة علم الحق وعذر القائل ، وأحجم عن المقالات التي لا تليق بمسلم أن يعتقدها في مسلم ، وعلم أن هذه من جملة مسائل الصفات . ولهذا قال الحافظ العلامة ابن حجر : قد صحت الأحاديث بذلك . فما بقي إلا التسليم أو التأويل ، فليس لأحد أن يدفع حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : بعقله هذه الأحاديث مشكلة ، ويلزم منها المحذور العظيم . فيتبع قول هذا ، أو قول من اتبع الأحاديث على حكم صفات الله تعالى اللائقة بجلاله وعظمته ؟ بل قد صرح أحمد في غير رواية منصوصة بجميع ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية