الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والنقض ، ويسمى تخصيص العلة ) هو ( عدم اطرادها ) وعدم اطراد العلة ( بأن توجد ) العلة ( بلا حكم ) مثاله : أن يقال في تعليل وجوب تبييت النية في الصوم الواجب : صوم عري أوله عن النية فلا يصح ، كالصلاة ، فتنتقض العلة - وهو العري في أوله - بصوم التطوع ، فإنه يصح من غير تبييت نية .

ثم اعلم أن تخلف الحكم عن الوصف إما في وصف ثبتت علته بنص قطعي أو ظني أو باستنباط . والتخلف إما لمانع أو فقد شرط ، أو غيرهما ، فهي تسعة ، من ضرب ثلاثة في ثلاثة ( و ) قد اختلف العلماء في كون النقض قادحا في العلة ، وفي بقائها حجة بعد النقض على عشرة أقوال . أحدها أن النقض ( لا يقدح مطلقا ، ويكون حجة في غير ما خص ) كالعام إذا خص به وهذا قول القاضي وأبي الخطاب . وحكاه الآمدي عن أكثر أصحابنا . قال القاضي : وهو ظاهر كلام أحمد . وممن قال به : أكثر الحنفية والمالكية ، وشهرته عن الحنفية أكثر ، غير أنهم ما سمحوا بتسميته نقضا ، وسموه بتخصيص العلة .

والقول الثاني : يقدح . اختاره من أصحابنا : ابن حامد وقاله القاضي أيضا ، فيكون له في المسألة قولان . وهو مذهب الشافعي وأكثر أصحابه ، وكثير من المتكلمين ، واختاره من الحنفية الماتريدي ، وقال : تخصيص العلة باطل . قال : ومن قال بتخصيصها فقد وصف الله تعالى بالسفه والعبث ، فأي فائدة من وجود العلة ولا حكم ؟ فصاحب هذا القول يقول تخصيصها نقض لها ، ونقضها يتضمن إبطالها . وعلى هذا القول : فالفرق بين هذا وبين جواز تخصيص العموم ، ويبقى في الباقي حجة على [ ص: 494 ] المرجح : أن العام يجوز إطلاقه على بعض ما تناوله ، فإذا خص فلا محذور فيه . وأما العلة : فهي المقتضية للحكم ، فلا يتخلف مقتضاها عنها ، فشرط فيها الاطراد .

والقول الثالث : يقدح في المستنبطة إلا لمانع أو فوات شرط ، ولا يقدح في المنصوصة ، مثال القدح في المستنبطة : تعليل القصاص بالقتل العمد العدوان ، مع انتفائه في قتل الأب ، وعدم القدح في المنصوصة : كقوله صلى الله عليه وسلم { إنما ذلك عرق } مع القول بعدم النقض بالخارج النجس من غير السبيل على رأي . وهذا اختيار الشيخ موفق الدين في الروضة . والقول الرابع : عكس هذا القول ، وهو القدح في المنصوصة وعدمه في المستنبطة ، إلا إذا كان لمانع أو فوات شرط ، قيده بذلك في المستنبطة السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب وقال : وإن لم يقيد بذلك حصل في كلام مختصر ابن الحاجب التكرار .

والقول الخامس : يقدح في المنصوصة إلا إذا كان بظاهر عام ، فإنه إذا كان بقاطع : لم يتخلف الحكم وإذا كان خاصا بمحل الحكم لم يثبت التخلف ، وهو خلاف الفرض ، وأما في المستنبطة : فيجوز فيما إذا كان التخلف لمانع أو انتفاء شرط ، ويقدح فيما إذا كان التخلف دونهما ، وهو اختيار ابن الحاجب ، فإنه قال : والمختار إن كانت مستنبطة لم يجز إلا لمانع أو عدم شرط ، لأنها لا تثبت عليتها إلا ببيان أحدهما ; لأن انتفاء الحكم إذا لم يكن ذلك مانعا لعدم المقتضي . وإن كانت منصوصة بظاهر عام : فيجب تخصيصه كعام وخاص ، ويجب تقدير المانع . انتهى . قال القاضي عضد الدين : وحاصل هذا المذهب أنه لا بد من مانع أو عدم شرط ، لكن في المستنبطة يجب العلم بعينه . وإلا لم تظن العلية ، وفي المنصوصة : لا يجب ، ويكفي في ظن العلية تقديره ، وفي الصورتين لا تبطل العلية بالتخلف . انتهى .

والقول السادس : المنع في المنصوصة ، أو ما استثني من القواعد كالمصراة والعاقلة . اختاره الفخر إسماعيل من أصحابنا ، والقول السابع : القدح مطلقا ، إلا أن يرد على سبيل الاستثناء . ويعترض على جميع المذاهب كالعرايا .

حكاه في جمع الجوامع عن الفخر الرازي . قال العراقي : وقد حكاه في المحصول عن [ ص: 495 ] قوم ، واقتضى كلامه موافقتهم ، وقال في الحاصل : إنه الأصح . والقول الثامن : يقدح إلا لمانع أو فقد شرط . وبه قال البيضاوي والهندي والقول التاسع : إن كانت علة حظر لم يجز تخصيصها ، وإلا جاز . حكاه الباقلاني عن بعض المعتزلة . والقول العاشر : إن كان التخلف لمانع أو فقد شرط ، أو في معرض الاستثناء ، أو كانت منصوصة بما لا يقبل التأويل : لم يقدح ، وإلا قدح . وليس الخلاف لفظيا ، خلافا لأبي المعالي وابن الحاجب . وتأتي أحكام النقض في القوادح .

( والتعليل لجواز الحكم لا ينتقض بأعيان المسائل ) كالصبي حر ، فجاز أن تجب زكاة ماله كبالغ ، فلا ينتقض بغير الزكوي ، قال أبو الخطاب في التمهيد : فقال المعترض : ينتقض إذا كان له معلوفة أو عوامل ، أو ماله دون نصاب ، فإن ذلك ليس بنقض ; لأن المعلل أثبت بالجواز حالة واحدة ، وانتفاء الزكاة في حالة لا يمنع وجوبها في حالة أخرى ( و ) التعليل ( بنوعه ) أي نوع الحكم ( لا ينتقض بعين مسألة ) كالنقض بلحم الإبل نوع عبادة تفسد بالحدث فتفسد بالأكل كالصلاة ، قال في التمهيد : فنقول : فينتقض بالطواف ، فإنه نوع يفسد بالحدث ، ولا يفسد بالأكل ، فقالوا : عللنا نوع هذه العبادة التي تفسد بالحدث ، فلا ينتقض بأعيان المسائل ; لأن الطواف بعض نوعها ، فإذا لم يوجد الحكم فيه وجد في بقية الفرع ( والكسر ) وهو ( وجود الحكمة بلا حكم ) كقول حنفي في عاص بسفره : سافر ، فيترخص كغير العاصي ، ثم يبين مناسبة السفر بالمشقة ، فيعترض بمن صنعته شاقة حضرا لا يترخص إجماعا ( والنقض المكسور نقض بعض الأوصاف ) قال البرماوي : قال أكثر الأصوليين والجدليين : إنه إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة ، وإخراجه من الاعتبار ببيان أنه لا أثر له ، وله صورتان . إحداهما : أن يبدل ذلك الوصف الخاص الذي يبين أنه لغوي بوصف أعم منه ، ثم ينقضه على المستدل ، كقول شافعي في إثبات صلاة الخوف : صلاة يجب قضاؤها ، فيجب أداؤها ، كصلاة الأمن فيقول المعترض : خصوص كونها صلاة ملغى ، لا أثر له ; لأن الحج والصوم كذلك ، فلم يبق إلا الوصف العام ، وهو [ ص: 496 ] كونها عبادة . فينقضه عليه بصوم الحائض ، فإنه عبادة يجب قضاؤها ، ولا يجب أداؤها ، بل يحرم .

الصورة الثانية : أن لا يبدل خصوص الصلاة ، فلا يبقى علة للمستدل إلا قوله : يجب قضاؤها ، فيقال عليه : وليس كل ما يجب قضاؤه يؤدى . دليله : الحائض ، فإنه يجب عليها قضاء الصوم دون أدائه . قال أبو إسحاق الشيرازي في الملخص : وهو سؤال مليح ، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة ، وقد اتفق أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به ، ويسمونه النقض من طريق المعنى ، والإلزام من طريق الفقه . وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين . انتهى . ومن أمثلة ذلك : أن يقول شافعي في بيع ما لم يره المشتري : بيع مجهول الصفة عند العاقد . فلا يصح ، كما لو قال : بعتك عبدا ، فيقول المعترض ينكسر بما إذا نكح امرأة لم يرها . فإنه يصح مع كونها مجهولة الصفة عند العاقد . فهذا كسر ، لأنه نقض من جهة المعنى ، إذ النكاح في الجهالة كالبيع ، بدليل أن الجهل بالعين في كل منهما يوجب الفساد ، فوصف كونه مبيعا ملغى ، بدليل أن الرهن ونحوه كذلك ، ويبقى عدم الرؤية ، فينتقض بنكاح من لم يرها ، وإن نزلته على الصورة الأولى - وهي الإبدال بالأعم - فتقول : عقد على من لم يره العاقد ، فينتقض بالنكاح . ( و ) الصحيح عند أصحابنا والأكثر : أن الكسر والنقض المكسور ( لا يبطلانها ) أي العلة .

واستدل لقول أصحابنا والأكثر أن العلة مجموع الأوصاف ، ولم ينقضاها . فإن بين المعترض بأنه لا أثر له لكونه مبيعا ، فإن أصر المستدل على التعليل بالوصفين بطل ما علل به ، لعدم تأثيره لا بالنقض ، وإن اقتصر على الوصف المنقوض بطل بالنقض ; لأنه ورد على كل العلة . وإن أتى بوصف لا أثر له في الأصل ليحترز به عن النقض لم يجز ( والعكس ، وهو عدم الحكم لعدم العلة شرط ) في صحة العلة ( إن كان التعليل لجنس الحكم ، ) و ( لا ) يكون شرطا ( إن كان ) التعليل ( لنوعه ) أي نوع الحكم ، قال ابن مفلح : اشتراطه مبني على منع تعليل الحكم بعلتين ، فمن منع اشتراطه كعدم الحكم لعدم دليله . والمراد بعدم الحكم : عدم الظن أو العلم به ، لتوقفه على النظر الصحيح في [ ص: 497 ] الدليل ، ولا دليل ، وإلا فالصنعة دليل وجود الصانع ، ولا يلزم من عدمها عدمه .

ومن جوزه لم يشترطه ; لجواز دليل آخر . هذا إن كان التعليل لنوع الحكم ، نحو : الردة علة لإباحة الدم . فأما جنسه : فالعكس شرط ، نحو : الردة علة لجنس إباحة الدم ، فلا يصح لفوات العكس . وظاهر ما سبق : أن الخلاف في تعليل الحكم الواحد بعلتين معا ، وعلى البدل . انتهى .

قال العضد : شرط قوم في علة حكم الأصل الانعكاس ، وهو أنه كلما عدم الوصف عدم الحكم ، ولم يشترطه آخرون . والحق أنه مبني على جواز تعليل الحكم [ الواحد ] بعلتين مختلفتين ; لأنه إذا جاز ذلك صح أن ينتفي الوصف ولا ينتفي الحكم لوجود [ الوصف ] الآخر وقيامه مقامه . وأما إذا لم يجز فثبوت الحكم دون الوصف يدل على أنه ليس علة له وأمارة عليه ، وإلا لانتفى الحكم بانتفائه ; لوجوب انتفاء الحكم عند انتفاء دليله . ونعني بذلك : انتفاء العلم أو الظن ، لا انتفاء نفس الحكم ، إذ لا يلزم من انتفاء دليل الشيء انتفاؤه ، وإلا لزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاء الصانع تعالى ، وإنه باطل . نعم يلزم انتفاء العلم أو الظن بالصانع ، فإنا نعلم قطعا أن الصانع تعالى لو لم يخلق العالم ، أو لو لم يخلق فيه الدلالة ، لما لزم انتفاؤه قطعا .

هذا بناء على رأينا ، يعني أن بعض المجتهدين مصيب وبعضهم مخطئ . وأما عند المصوبة : فلا حاجة إلى هذا العذر ; لأن مناط الحكم عندهم : العلم أو الظن ، فإذا انتفيا انتفى الحكم . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية