الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن دخل مكة بغير إحرام ثم خرج من عامه ذلك إلى الوقت ، وأحرم بحجة عليه أجزأه ) ذلك ( من دخوله مكة بغير [ ص: 112 ] إحرام ) وقال زفر رحمه الله : لا يجزيه ، وهو القياس اعتبارا بما لزمه بسبب النذر ، وصار كما إذا تحولت السنة .

ولنا أنه تلافى المتروك في وقته ; لأن الواجب عليه تعظيم هذه البقعة بالإحرام ، كما إذا أتاه محرما بحجة الإسلام في الابتداء ، بخلاف ما إذا تحولت السنة ; لأنه صار دينا في ذمته فلا يتأدى إلا بإحرام مقصود كما في الاعتكاف المنذور فإنه يتأدى بصوم رمضان من هذه السنة دون العام الثاني

التالي السابق


. ( قوله : ومن دخل مكة بغير إحرام ثم خرج من عامه ) حاصل الأحكام الكائنة هنا أربعة . أحدها : أنه لا يجوز ; للآفاقي دخول مكة بغير إحرام . ثانيها : أن من دخلها بلا إحرام يجب عليه إما حجة أو عمرة . قال في البدائع : فإن أقام بمكة حتى تحولت السنة ثم أحرم يريد قضاء ما وجب عليه بدخول مكة بغير إحرام أجزأه في ذلك ميقات أهل مكة في الحج بالحرم وفي العمرة بالحل ; لأنه لما أقام بمكة صار في حكم أهلها فيجزيه إحرامه من ميقاتهم . ا هـ .

وتعليله يقتضي أن لا حاجة إلى تقييده بتحويل السنة . ثالثها : أنه إذا خرج من عامه ذلك إلى الميقات وحج حجة الإسلام سقط ما وجب عليه بدخول مكة بلا إحرام . رابعها : أنه إذا خرج بعد مضي تلك السنة لا يسقط ، وقول المصنف بحجة عليه أعم من كونها منذورة أو حجة الإسلام ، وكذا إذا أحرم بعمرة منذورة وقوله أجزأه من دخول مكة بغير إحرام : يعني من آخر دخول دخله بغير إحرام ، فإنه لو دخل مرارا بغير إحرام وجب عليه ; لكل مرة حجة أو عمرة ، فإذا خرج فأحرم بنسك أجزأه عن دخوله الأخير لا عما قبله ، ذكره في شرح الطحاوي قال : لأن الواجب قبل الأخير صار دينا في ذمته فلا يسقط إلا بالتعيين بالنية . وفي المبسوط : إذا دخل مكة بلا إحرام فوجب عليه حجة أو عمرة فأهل به بعد سنة من وقت غير وقته هو أقرب منه . قال : [ ص: 112 ] يجزيه ذلك ولا شيء عليه ; لأنه في السنة الأولى لو أهل منه أجزأه عما يلزمه من دخولها .

( قوله : اعتبارا بما لزمه بالنذر ) أي اعتبارا ; لما لزمه بالدخول بغير إحرام بما لزمه بالنذر ، وفي المنذور لا يخرجه عن عهدته إلا أن ينويه عنه ، فكذا ما بالدخول . ( ولنا ) وهو وجه الاستحسان ( أنه تلافى المتروك في وقته إلخ ) معنى هذا الكلام أن الواجب عليه أن يكون محرما عند قصد دخول مكة من الميقات تعظيما ; للبقعة لا ; لذات دخول مكة من حيث هو دخولها ، فإذا لم يفعل ودخل هو بلا إحرام وجب عليه قضاء حقها الذي لم يفعله ، وذلك بأن يدخلها على ذلك الوجه الذي فوته ، فإذا خرج إلى الميقات فأحرم بحجة عليه وقدم مكة فقد فعل ما تركه ; وذلك لأن وجوب أحد النسكين فيما إذا دخلها بلا إحرام ليس إلا لوجوب الإحرام ، إلا أنه لما كان الإحرام لا يتحقق إلا بأحدهما قلنا وجب عليه أحدهما ، فإذا خرج إلى الميقات فأحرم بما عليه فقد فعل ما كان واجبا عليه بالدخول ، وهو الإحرام في ضمن ما وجب عليه بسبب آخر ، وصار كما إذا أتاها محرما ابتداء بما عليه من حجة الإسلام من الميقات لم يلزمه شيء آخر ; لحصول المقصود في ضمن ما عليه .

بخلاف ما إذا تحولت السنة ، فإنه لما لم يقض حقها في تلك صار بتفويته دينا عليه فصار تفويتا مقصودا محتاجا إلى النية ، كما إذا نذر أن يعتكف هذا الرمضان فاعتكف فيه جاز ، وإن لم يعتكفه لا يجوز أن يعتكفه في رمضان الآتي ; لأنه لما فاته المنذور المعين تقرر اعتكافه في الذمة دينا فلا يتأدى [ ص: 113 ] إلا بصوم مقصود ; لعود شرطه : أعني الصوم إلى الكمال الأصلي فلا يتأدى في ضمن صوم آخر . ولقائل أن يقول : لا فرق بين سنة المجاوزة وسنة أخرى ، فإن مقتضى الدليل إذا دخلها بلا إحرام ليس إلا وجوب الإحرام بأحد النسكين فقط . ففي أي وقت فعل ذلك يقع أداء ; لأن الدليل لم يوجب ذلك في سنة معينة ; ليصير بفواتها دينا يقضى . فمهما أحرم من الميقات بنسك عليه تأدى هذا الواجب في ضمنه .

وعلى هذا إذا تكرر الدخول بلا إحرام منه ينبغي أن لا يحتاج إلى التعيين ، وإن كانت أسبابا متعددة الأشخاص دون النوع ، كما قلنا فيمن عليه صوم يومين من رمضان فصام ينوي مجرد قضاء ما عليه ، ولم يعين الأول ولا غيره جاز . وكذا لو كانا من رمضانين على الأصح ، فكذا نقول إذا رجع مرارا فأحرم كل مرة بنسك حتى أتى على عدد دخلاته خرج عن عهدة ما عليه .




الخدمات العلمية