الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن ادعت عليه امرأة أنه تزوجها وأقامت بينة فجعلها القاضي امرأته ولم يكن تزوجها وسعها المقام معه وأن تدعه يجامعها ) وهذا عند أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف أولا ، وفي قوله الآخر وهو قول محمد لا يسعه أن يطأها وهو قول الشافعي لأن القاضي أخطأ الحجة إذ الشهود كذبة فصار كما إذا ظهر أنهم عبيد [ ص: 253 ] أو كفار ولأبي حنيفة أن الشهود صدقة عنده وهو الحجة لتعذر الوقوف على حقيقة الصدق ، بخلاف الكفر والرق لأن الوقوف عليهما متيسر ، وإذا ابتنى القضاء على الحجة وأمكن تنفيذه باطنا بتقديم النكاح نفذ قطعا للمنازعة ، [ ص: 254 - 255 ] بخلاف الأملاك المرسلة لأن في الأسباب تزاحما فلا إمكان

التالي السابق


( قوله ومن ادعت عليه امرأة ) لقب المسألة أن القضاء بشهادة الزور في العقود والفسوخ ينفذ عند أبي حنيفة ظاهرا وباطنا إذا كان مما يمكن القاضي إنشاء العقد فيه ، فلو ادعى نكاح امرأة أو هي ادعت النكاح أو الطلاق الثلاث كذبا وبرهنا زورا فقضى بالنكاح أو الطلاق نفذ ظاهرا ، فتطالب المرأة في الحكم بالقسم والوطء والنفقة ، وباطنا فيحل له وطؤها وإن علم حقيقة الحال ، ولها أن تمكنه . وقولنا [ ص: 253 ] إذا كان مما يمكن القاضي إنشاؤه يخرج ما إذا كانت معتدة الغير أو مطلقته ثلاثا فادعى أنه تزوجها بعد زوج آخر ونحو ذلك مما لا يقدر القاضي على إنشاء العقد فيه . أما الهبة والصدقة ففي نفاذ القضاء بهما باطنا روايتان إذا ادعيا كذبا . وجه المانعة أن القاضي لا يملك تمليك مال الغير بلا عوض ، وقول أبي حنيفة هو قول أبي يوسف الأول ، وفي قوله الآخر وهو قول محمد لا ينفذ باطنا فلا يسعه أن يطأها إذا ادعى كذبا ، وإذا كان مدعى عليه يطلقها وهو قول الشافعي وكما لا تحل للثاني لا تحل للأول فيما إذا ادعت الطلاق الثلاث كذبا فقضى به وتزوجت آخر عند محمد وعند أبي حنيفة تحل للثاني لا للأول لأن القاضي يملك التطليق على الغير أحيانا ، بخلاف المعتدة وأختها ، وكذا الاختلاف في دعوى الفسخ بأن ادعى أحد المتبايعين على صاحبه فسخ البيع كذبا وبرهن زورا ففسخ القاضي ينفسخ البيع ويحل للبائع وطؤها لو كانت أمة ، وكذا لو ادعى بيع الأمة منه ولم يكن باعها فقضى بها القاضي لمدعي الشراء حلت له ، وكذا في دعوى العتق والنسب . وجه تمسكهما في الكتاب ظاهر .

وأيضا القضاء إما إمضاء لعقد سابق أو إنشاء لا يصح الأول لعدم سابق ، ولا الثاني لأنه لا إيجاب ولا قبول ولا شهود . ولأبي حنيفة أن القاضي مأمور بما في وسعه ، وإنما في وسعه القضاء بما هو حجة عنده وقد فعل وهذا يفيد أن القاضي لو علم كذب الشهود لا ينفذ ، ولما لم يستلزم ما ذكر النفاذ باطنا إذ القدر الذي توجبه الحجة وجوب القضاء وهو لا يستلزم النفاذ باطنا إذا كان مخالفا للواقع وهو محل الخلاف زاد قوله ( وإذا ابتنى القضاء على الحجة وأمكن تنفيذه باطنا بتقديم النكاح ينفذ ) فأفاد اختيار أحد شقي ترديدهما وهو أنه إنشاء والمعنى أنه يثبت الإنشاء اقتضاء للقضاء بتقديمه عليه ، وأفاد بذلك جوابهما عما أبطلا به هذا الشق من عدم الإيجاب والقبول والشهود ، فإن ثبوته على هذا الوجه يكون ضمنيا ، ولا يشترط للضمنيات ما يشترط لها إذا كانت قصديات ، على أن كثيرا من المشايخ شرطوا حضور الشهود القضاء للنفاذ باطنا ولم يشترطه بعضهم وهو أوجه ، ولو أنهما أبطلا هذا الشق بعدم التراضي من الجانبين لم يندفع بذلك ، ولما كان المقتضى ما ثبت ضرورة صحة غيره ولم يظهر وجه احتياج صحة القضاء إلى تقديم الإنشاء إلا إذا افتقرت صحته إلى نفاذه باطنا وليس مفتقرا إليه لثبوته مع انتفائه في الأملاك المرسلة حيث يصح ظاهرا لا باطنا زاد قوله ( قطعا للمنازعة ) يعني أن المقصود من القضاء قطع المنازعة ، ولا تنقطع فيما نحن فيه [ ص: 254 ] إلا بتنفيذه باطنا ، إذ لو بقيت الحرمة تكررت المنازعة في طلبها الوطء أو طلبه مع امتناع الآخر لعلمه بحقيقة الحال فوجب تقديم الإنشاء فكأن القاضي قال زوجتكها وقضيت بذلك كقولك هو حر في جواب أعتق عبدك عني بألف حيث يتضمن البيع منه .

وذكر الشيخ أكمل الدين أن بعض من حضر عنده من المغاربة منع الحصر وقال يمكن قطع المنازعة بأن يطلقها ، قال فأجبته ما تريد بالطلاق ، الطلاق المشروع أو غيره لا عبرة بغيره ، والمشروع يستلزم المطلوب إذ لا يتحقق إلا في نكاح صحيح . قال شيخنا سراج الدين : ليس بجواب صحيح ، إذ له أن يريد به الطلاق غير المشروع ، وكونه لا عبرة به في كونه طلاقا صحيحا لا يضر ، إذ قد ثبت بذلك أن قطع المنازعة الواجب لا يتوقف على التنفيذ باطنا ليجب التنفيذ باطنا بل تحقق طريق آخر لقطع المنازعة وهو أن يتلفظ بلفظ الطلاق فلم يجب التنفيذ باطنا حينئذ لأنه لم يكن له موجب سوى انحصار طريق قطع المنازعة فيه وظهر أنه لم ينحصر . والحق أن قطع المنازعة ينتهض سببا للتنفيذ باطنا فيما إذا كان هو المدعي لأنها لا تقدر على التخلص بلفظ الطلاق لا فيما إذا كانت هي المدعية لما ذكر ، ففيه قصور عن صور المدعي وهو النفاذ باطنا في العقود والفسوخ .

الذي روي عن علي رضي الله عنه وهو أن رجلا أقام بينة على امرأة أنها زوجته بين يدي علي فقضى علي بذلك . فقالت المرأة : إن لم يكن لي منه بد يا أمير المؤمنين فزوجني منه ، فقال : شاهداك زوجاك ، يخص ما إذا انحصر قطع المنازعة في التنفيذ باطنا فإنه لو لم ينعقد باطنا لأجابها فيما طلبت للحقيقة التي عندها . والأوجه أن يراد بالمنازعة في قوله قطعا للمنازعة اللجاج المؤدي إلى الضرر أعم من كونه عند القاضي أو لا فتناول ما إذا لج الأول في طلبها باطنا بأن يأتيها لقصد جماعها كرها أو باسترضائها وذلك لعلمه بحقيقة الحال والحل الباطن .

وفي هذا بعد كونه منشأ مفسدة التقاتل والسفك لكونه عرضة له باطلاع الزوج عليه قبح اجتماع زوجين على امرأة أحدهما سرا والآخر جهرا ، وكل من الأمرين ينبو عن قواعد الشريعة فلا تنقطع المنازعة على المعنى الذي ذكرناه من الأعمية إلا بالحكم بالنفاذ باطنا وثبوت الحرمة ، في نفس الأمر بفسخ القاضي فعم الصور ثم على المبتدئ بالدعوى الباطلة وإثباتها بالطريق الباطل إثم يا له من إثم غير أن الوطء بعد ذلك في حل ، وقول أبي حنيفة أوجه ، وقد استدل على أصل المسألة بدلالة الإجماع على أن من اشترى جارية ثم ادعى فسخ بيعها كذبا وبرهن فقضى به حل للبائع وطؤها واستخدامها مع علمه بكذب دعوى المشتري مع أنه يمكنه التخلص بالعتق وإن كان فيه إتلاف [ ص: 255 ]

ماله ; لأنه ابتلي بأمرين فعليه أن يختار أهونهما وذلك ما يسلم له فيه دينه ( قوله بخلاف الأملاك المرسلة ) أي المطلقة عن تعيين سبب الملك بأن ادعى الملك في هذا الشيء ولم يعين سببا ، فإن القضاء به قضاء باليد ليس غير لتزاحم الأسباب : أي تعددها فلا يمكن القاضي تعيين بعضها دون بعض إذ لم تقم حجة بخصوصه ، بخلاف ما عين السبب فيه ووقعت الشهادة على تعيينه ، والله سبحانه أعلم .




الخدمات العلمية