الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن تزوجها على ألف فقبضتها ووهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بخمسمائة ) ; لأنه لم يصل إليه [ ص: 343 ] بالهبة عين ما يستوجبه ; لأن الدراهم والدنانير لا تتعينان في العقود والفسوخ ، وكذا إذا كان المهر مكيلا أو موزونا أو شيئا آخر في الذمة لعدم تعينها ( فإن لم تقبض الألف حتى وهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء . وفي القياس يرجع عليها بنصف الصداق وهو قول زفر ) ; لأنه سلم المهر له بالإبراء فلا تبرأ عما يستحقه بالطلاق قبل الدخول . وجه الاستحسان أنه وصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول وهو براءة ذمته عن نصف المهر ، ولا يبالي باختلاف السبب عند حصول المقصود ( ولو قبضت خمسمائة ثم وهبت الألف كلها المقبوض وغيره أو وهبت الباقي ثم طلقها قبل الدخول بها لم يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء عند أبي حنيفة . وقالا : رجع عليها بنصف ما قبضت ) اعتبارا للبعض بالكل ، ولأن هبة البعض حط فيلتحق بأصل العقد .

ولأبي حنيفة أن مقصود الزوج قد حصل وهو سلامة نصف الصداق بلا عوض فلا يستوجب الرجوع عند الطلاق . [ ص: 344 ] والحط لا يلتحق بأصل العقد في النكاح ، [ ص: 345 ] ألا ترى أن الزيادة فيه لا تلتحق حتى لا تتنصف ، ولو كانت وهبت أقل من النصف وقبضت الباقي ، فعنده يرجع عليها إلى تمام النصف . وعندهما بنصف المقبوض

التالي السابق


( قوله فإن تزوجها على ألف ) حاصل وجوهها إذا تزوجها على مسمى ، فإما أن يكون [ ص: 343 ] من الدراهم أو الدنانير أو المكيل أو الموزون غير المعين ، بخلاف المعين منهما فإنه كالعرض ، وإما من العروض أو الحيوان معينا أو في الذمة ; ففي الأول إن وهبت الكل أو نصفه بعد قبض الكل ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصفه اتفاقا ، أو قبله لم يرجع بشيء خلافا لزفر ، أو بعد قبض نصفه لم يرجع بشيء خلافا لهما ، وقال : لا يرجع بنصف المقبوض كائنا ما كان من النسبة ، حتى لو كانت وهبته أقل من النصف وقبضت الباقي رجع عليها بنصف المقبوض ، وعنده يرجع إلى تمام نصف الصداق ، وفي الثاني لا يرجع بشيء مطلقا قبضت أو لم تقبض وأوجب زفر رجوعه بنصف قيمة العرض . وجه الاتفاقية في الأول أن المقبوض ليس نفس المهر ; لأنه وصف [ ص: 344 ] في الذمة بل مثل تقع به المقاصة ، فظهر أن الواصل إليه غير ما يستحقه بالطلاق : أعني نصف المهر ; ألا يرى أن لها أن تمسك ما أخذته منه وتعطيه غيره إذا طلقها قبل الدخول بعد القبض ، وتقرير المصنف ناظر إلى أن الواجب بالطلاق دراهم مطلقة وهذه ليست إلا معينة ، ويدل على أنها ليست عين الواجب كونها لها أن تمسكها وتدفع غيرها عند الطلاق .

ووجه قول زفر في ثاني شقي الأول أن الواصل إليه وإن كان نفس الدين لكن وصل إليه بسبب غير الطلاق وهو الإبراء وهو مسبب عن الإبراء وغير مسبب عن الطلاق ; لما عرف من أن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف المسببات شرعا . أصله حديث : لحم تصدق به على بريرة ، فبواسطة لزوم الاختلاف شرعا لم يصل إليه عين ما يستحق فصارت كالأولى . وجه الاستحسان أن المستحق بالطلاق وهو سقوط نصف الدين عنه تحقق بالإبراء ، فحين حصل الطلاق لم يؤثر شيئا لعدم مصادفته شغل الذمة بالمهر وهو محل أثره ; لأنه إنما يؤثر في شغل الذمة بالإسقاط ، فلو أوجب شيئا آخر كما قال إنه يرجع عليها بخمسمائة عين لكان ذلك غير موجبه في محله وصار كمن عليه الدين المؤجل إذا عجله ثم حل الأجل لا يجب شيء آخر وإذا تأملت هذا التقرير سقط عندك ما تكلف في دفع لزوم اختلاف المسبب باختلاف السبب من تخصيص الدعوى بالأعيان ; لأنها تقبل التغير بتغيير صفاتها ، بخلاف الأوصاف كالدين فيما نحن فيه حيث لا يقبل ذلك لاستحالة قيام الصفة بالصفة ، وهو دفع فاسد ; لأن ثبوت التغير شرعا لا يتوقف على ذلك إنما هو اعتبار شرعي ، وقيام الصفة بالصفة بمعنى الاختصاص الناعت ليس محالا على ما عرف في التحقيقات الكلامية . ثم يمكن حمل قوله في الكتاب أنه وصل إليه عين ما يستحقه وهو براءة ذمته عن نصف المهر إلخ عليه : أي عين ما يستحقه ذاتا لا من حيث هو بسبب الإبراء ، ولا يبالي باختلاف السبب عند حصول المقصود سابقا فإنه لم يؤثر شيئا حينئذ .

وجه قولهما في قبض النصف إلحاق البعض بالكل وهو قول الشافعي في الأصح : يعني لو قبضت الكل ثم وهبته له يرجع بنصفه ، ولا يخفى أن الملازمة تحكم ، فإن رجوعه في صورة قبض الكل ليس لكونه قبض الكل ولا البعض بل ; لأنه لم يصل إليه عين ما يستحقه بالطلاق ، وهذا المناط منتف في صورة قبض النصف بناء على أن الطلاق قبل الدخول أعاد نصف الصداق إلى قديم ملك الزوج فيظهر أن الصداق الدين بذلك مشترك بينهما : يعني يتبين ذلك وإلا فحال الهبة كان كله ملكها ظاهرا ، فإذا قبضت النصف انصرف إلى حقها كمكيل أو موزون بين اثنين وهو في يد أحدهما وقبض صاحبه نصفه كان المقبوض حقه ، فإذا أبرأته بعد ما قبضت النصف من الباقي أو الكل كان الواصل إليه عين ما يستحقه بالوجه المذكور في هبة الكل قبل قبضه ، فظهر أن إلحاقهما البعض بالكل بوصف طردي غير مؤثر ، وتقرير الوجه الثاني ظاهر من الكتاب . وقوله ( والحط لا يلتحق بأصل العقد في النكاح ) يؤيده أنها لو حطت [ ص: 345 ] حتى بقي أقل من عشرة صح ولا تستحق غيره ، وتسمية ما دون العشرة في أصل العقد لا تصح ، وقيد بالنكاح ; لأنه يلتحق في البيع بأصل العقد .

ووجه الفرق أن البيع عقد مغابنة ومبادلة مال بمال ومرابحة فتقع الحاجة إلى دفع الغبن فيه فاعتبر الحط لقصد دفعه فالتحق بأصل العقد ، ولا كذلك عقد النكاح فليس كذلك الحط فيه وقوله ( ألا ترى أن الزيادة فيه لا تلتحق ) بأصل العقد ( حتى لا تتنصف ) استيضاح لعدم الالتحاق وهو مشكل ، فإن عدم التحاق الزيادة بأصل العقد هو الدافع لقول المانعين لها لو صحت كان ملكه عوضا عن ملكه ، فإذا لم تلتحق بقي إبطالهم ذلك بلا جواب ، فالحق أنها تلتحق كما يعطيه كلام غير واحد من المشايخ ، وإنما لا تتنصف ; لأن الانتصاف خاص بالمفروض في نفس العقد حقيقة بالنص المقيد بالعادة المنصرف إليها على ما مر ، وهذه لم توجد حقيقة حالة العقد بل لحقت به ، ولأن وجه إلحاقها بالبيع وهو أنه قد يكون خاسرا أو زائدا مضرا بالمشتري فيرد إلى العدل يجري في النكاح ، وخسرانه أنه ينقص عن مهر مثلها فيرد بالزيادة إليه فإن تزويجها مع نقصها عن مهر مثل أخواتها مثلا يعقب الندم لها وزيادته تعقب الندم له .

وجه قول زفر في العرض المعين وهو أحد قولي الشافعي في الجديد واختاره أكثر أصحابه أن الواجب فيه رد نصف عين المهر على ما مر تقريره من أن السالم بالهبة غير ما يستحقه بالطلاق لاختلاف السبب فترتب على الطلاق مقتضاه ، ويجب قيمة نصفه لتعذر عينه ، كما لو تزوج على عبد الغير فأبى سيده .

ووجه الاستحسان أن الواجب بالطلاق سلامة نصف المقبوض وقد وصل عين ذلك إليه فلم يصادف الطلاق ما كان شاغلا ذمتها ليؤثر وجوب تفريغها منه عليها على نحو ما سلكت في التقرير السابق ، وحمل كلام الكتاب هنا عليه سهل مما تقدم




الخدمات العلمية