الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم ) لقوله [ ص: 445 ] عليه الصلاة والسلام { لا رضاع بعد الفصال } ولأن الحرمة باعتبار النشوء وذلك في المدة إذ الكبير لا يتربى به ، [ ص: 446 ] ولا يعتبر الفطام قبل المدة إلا في رواية عن أبي حنيفة رحمه الله إذا استغنى عنه . ووجهه انقطاع النشوء بتغير الغذاء وهل يباح الإرضاع بعد المدة ؟ فقيل لا يباح ; لأن إباحته ضرورية لكونه جزء الآدمي . .

التالي السابق


( قوله وإذا مضت مدة الرضاع لم يتعلق بالرضاع تحريم ) فطم أو لم يفطم ، حتى لو ارتضع لا يثبت التحريم خلافا لمن قال بالتحريم أبدا للإطلاقات الدالة على ثبوت التحريم به ، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه خمسا ، ولحديث سهلة المتقدم . والجواب أن هذا كان ثم نسخ بآثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين تفيد اتفاقهم عليه . فمنها ما قدمناه في استدلالهما من قوله صلى الله عليه وسلم { لا رضاع [ ص: 445 ] إلا ما كان من حولين } وقدمنا تخريجه مرفوعا وموقوفا على ابن عباس وعلي وعمر وابن مسعود رضوان الله عليهم أجمعين ، وما ذكره المصنف من قوله عليه الصلاة والسلام { لا رضاع بعد الفصال } والمراد نفي الحكم ; لأنه قد ثبت هويته بعده ، وما في الترمذي من حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال { لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام } قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه { لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشر العظم } يروى بالراء المهملة : أي أحياه . ومنه قوله تعالى { ثم إذا شاء أنشره } وبالزاي : أي رفعه وبزيادة الحجم يرتفع . وفي الصحيحين { عن عائشة رضي الله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل . فقال : يا عائشة من هذا ؟ قلت : أخي من الرضاعة ، فقال : يا عائشة انظرن من إخوتكن فإن الرضاعة من المجاعة } يعني اعرفن إخوتكن لخشية أن يكون رضاعة ذلك الشخص كانت في حالة الكبر . فإن قلت : عرف من أصلكم أن عمل الراوي بخلاف ما روى يوجب الحكم بنسخ ما روى فلا يعتبر ويكون بمنزلة روايته للناسخ ، وحديث الصحيحين وهو قوله { إنما الرضاعة من المجاعة } روته عائشة رضي الله عنها وعملها بخلافه فيكون محكوما بنسخ كون رضاع الكبير محرما . قلنا : المعنى أنه إذا لم يعرف من الحال سوى أنه خالف مرويه حكمنا بأنه اطلع على ناسخه في نفس الأمر ظاهرا ; لأن الظاهر أنه لا يخطئ في ظن غير الناسخ ناسخا لا قطعا .

فلو اتفق في خصوص محل بأن عمله بخلاف مرويه كان لخصوص دليل علمناه وظهر للمجتهد غلطه في استدلاله بذلك الدليل لا شك أنه لا يكون مما يحكم فيه بنسخ مرويه ; لأن ذلك ما كان إلا لإحسان الظن بنظره ، فأما إذا تحققنا في خصوص مادة خلاف ذلك وجب اعتبار مرويه بالضرورة دون رأيه . وفي الموطإ وسنن أبي داود عن يحيى بن سعيد أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال : إني مصصت عن امرأتي من ثديها لبنا فذهب في بطني ، فقال أبو موسى لا أراها إلا قد حرمت عليك ، فقال عبد الله بن مسعود : انظر ما تفتي به الرجل ، فقال أبو موسى : فما تقول أنت ؟ فقال عبد الله : { لا رضاعة إلا ما كان في حولين } فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم . هذه رواية الموطإ فرجوعه إليه بعد ظهور النصوص المطلقة وعما أفتاه بالحرمة لا يكون إلا لذكره للناسخ له أو لتذكره عنده ، وغير عائشة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم يأبين ذلك ويقلن : لا نرى هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رخصة لسهلة خاصة ، ولعل سببه ما تضمنه مما يخالف أصول الشرع حيث يستلزم مس عورتها بشفتيه فحكمن بأن ذلك خصوصية . وقيل سببه أن عائشة رجعت .

وفي الموطإ عن ابن عمر : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت : دونك قد [ ص: 446 ] والله أرضعتها ، قال عمر : أوجعها وائت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغير .

( قوله ولا يعتبر الفطام قبل المدة ) حتى لو فطم قبل المدة ثم أرضع فيها ثبت التحريم إلا في رواية عن أبي حنيفة أنه إذا فطم قبل المدة وصار بحيث يكتفي بغير اللبن لا تثبت الحرمة إذا رضع فيها ، رواها الحسن عنه .

وفي واقعات الناطفي الفتوى على ظاهر الرواية ، أنها تثبت ما لم تمض إقامة للمظنة مقام المئنة ، فإن ما قبل المدة مظنة عدم الاستغناء ( وهل يباح الإرضاع بعد المدة ؟ قيل لا ; لأنه جزء الآدمي فلا يباح الانتفاع به إلا للضرورة ) وقد اندفعت ، وعلى هذا لا يجوز الانتفاع به للتداوي ، وأهل الطب يثبتون للبن البنت أي الذي نزل بسبب بنت مرضعة نفعا لوجع العين . واختلف المشايخ فيه ، قيل لا يجوز ، وقيل يجوز إذا علم أنه يزول به الرمد ، ولا يخفى أن حقيقه العلم متعذرة فالمراد إذا غلب على الظن وإلا فهو معنى المنع .




الخدمات العلمية