الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              التنبيه العاشر والمائة :

                                                                                                                                                                                                                              مجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره : من المشهور اثنا عشر شيئا : الأول : كون المعراج قبل البعثة وقدمنا جوابه . الثاني : كونه مناما وتقدم الكلام على ذلك . الثالث : أمكنة الأنبياء في السماوات وقد اتضح أنه لم يضبط منازلهم لكن وافقه الزهري في بعض ما ذكر . الرابع : مخالفته في محل سدرة المنتهى وأنها فوق السماء السابعة ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى ، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما تقدم . الخامس :

                                                                                                                                                                                                                              مخالفته في النهرين وهما النيل والفرات وأن عنصرهما في السماء الدنيا ، والمشهور في غير روايته أنهما في السماء السابعة وأنهما تحت سدرة المنتهى وتقدم جوابه السادس : شق الصدر عند الإسراء وقد وافقته رواية غيره كما تقدم بسط ذلك في أبواب صفاته . السابع : ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا ، والمشهور في الحديث أنه في الجنة ، وتقدم الكلام على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : نسبة الدنو والتدلي إلى الله تعالى ، والمشهور أنه جبريل . قال الخطابي : «ليس في هذا الكتاب- يعني صحيح البخاري- أشنع ظاهرا ولا أمنع مذاقا من هذا- يعني قوله : «ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى» - فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر وتمييز مكان كل واحد منهما ، هذا مع ما في التدلي من التشبيه ، والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل . قال : فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعا عن غيره ، ولم يعتبره بأول القصة ولا بآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه ، وكان قصاراه إما رد الحديث من أصله وإما الوقوع في التشبيه ، وهما خطآن مرغوب عنهما .

                                                                                                                                                                                                                              «وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الإشكال فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله : «وهو نائم» وفي آخره : «استيقظ» . وفي بعض الرؤيا مثل يضرب ليتناول على الوجه الذي يجب أن يصرف إليه معنى التعبير في مثله ، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك بل يأتي كالمشاهدة» .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : «وهو كما قال ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله : إن في الحديث الصحيح أن رؤيا الأنبياء وحي فلا يحتاج إلى تعبير ، لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل ، فإن بعض مرائي الأنبياء يقبل التعبير ، فمن ذلك قول بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم في رؤيا القميص : «فما أولته يا رسول الله؟» قال : «الدين» . وفي رؤيا اللبن قال : «العلم» .

                                                                                                                                                                                                                              لكن جزم الخطابي بأن ذلك كان مناما ، وهذا متعقب بما قدمناه من ترجيح كونه في اليقظة بالأدلة التي أشرنا إليها . [ ص: 156 ]

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال الخطابي مشيرا إلى رفع الحديث من أصله «إن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله ، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي أنس ، وأما شريك فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة» . قال الحافظ : «وما نفاه من أن أنسا لم يسند هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له ، فأدنى أمره فيها أن تكون مرسل صحابي ، فإما أن يكون تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي تلقاها عنه . ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي فيكون لها حكم الرفع . ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلا وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة فالتعليل بذلك مردود .

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال الخطابي : «إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلي للجبار عز وجل مخالفة لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير ومن تقدم منهم ومن تأخر . والذي قيل فيه ثلاثة أقوال : أحدها : دنا جبريل من محمد فتدلى أي تقرب منه ، وقيل هو على التقديم والتأخير أي تدلى فدنا لأن التدلي سبب الدنو . الثاني : تدلى جبريل بعد الانصباب والاندفاع حتى رآه متدليا كما رآه مرتفعا ، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شيء وتمسك بشيء . الثالث : دنا جبريل فتدلى محمد ساجدا لربه شكرا على ما أعطاه من الزلفى . وقد روى هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه من غير طريق شريك فلم يذكر هذه الألفاظ الشنيعة ، وذلك مما يقوي الظن أنها صادرة من شريك» .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : «قد أخرج البيهقي من طريق الأموي في مغازيه عن محمد بن عمر بن أبي سلمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى [النجم : 13] ، قال : «دنا منه ربه» ، وهذا سند حسن وهو شاهد قوي لرواية شريك . ثم قال الخطابي :

                                                                                                                                                                                                                              «وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرد بها شريك أيضا لم يذكرها غيره ، وهي قوله : «فعلا به» يعني جبريل إلى الجبار تعالى ، فقال وهو مكانه : «رب خفف عنا» . قال الخطابي :

                                                                                                                                                                                                                              «والمكان لا ينسب إلى الله تعالى ، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه الأول الذي قام فيه قبل هبوطه» . قال الحافظ : «وهذا الأخير متعين وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى ، وأما ما جزم به من مخالفته للسلف والخلف فقد ذكرنا من وافقه» . وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال : «دنا الله» ، قال القرطبي : «والمعنى دنا أمره وحكمه ، وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه» . قال : «وقيل التدلي تدلي الرفرف لمحمد حتى جلس عليه ، ثم دنا محمد من ربه» . وقد أزال العلماء إشكاله فقال القاضي : «إضافة الدنو والقرب هنا من الله تعالى أو إلى الله تعالى ليس بدنو مكان وقرب مدى ينتهي إليه وإنما دنو . [ ص: 157 ]

                                                                                                                                                                                                                              النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه إبانة لعظيم منزلته وتشريف رتبته اعتناء بشأنه وإظهارا لما لم يؤته أحدا غيره وإشراق أنوار معرفته ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته ، كما قال جعفر بن محمد : الدنو من الله تعالى لا حد له ينتهي إليه مطمح فهم أو مطرح وهم ، ومن العباد بالحدود الغائية المنتهية إلى غاية» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أيضا : «انقطعت الكيفية عن الدنو ، ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوه ودنا محمد إلى ما أودع قلبه من المعرفة والإيمان فتدلى بسكون قلبه إلى ما أدناه إليه وأزال من قلبه الشك والارتياب أي الذي عرا خاطره : هل يغشى حضرة هذا القرب وينال مواهبه من إنافة وإكرام وشرف وإنعام فأنجح الله أمنيته لا الشك في ذلك ، إذ كان أثبت الناس معرفة وإيمانا وأسكنهم جنانا وأملكهم طمأنينة وسكونا ، وإنما الدنو والقرب من الله تعالى أو إليه كناية عن جزيل فوائده إليه وجميل عوائده عليه وتأنيس لاستيحاشه بانقطاع الأصوات عنه ، وبسط بالمكالمة وإكرام بشرائف منيفة ، يتأول في دنوه تعالى منه ما يتأول به في

                                                                                                                                                                                                                              قوله صلى الله عليه وسلم : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر»

                                                                                                                                                                                                                              ، على أحد الوجوه من أن نزوله تعالى إنما هو نزول إفضال وإجمال وقبول توبة وإحسان بمعرفة وإشفاق» .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الواسطي : «من توهم أنه بنفسه دنا فقد جعل ثم مسافة ولا مسافة لاستحالتها بل كلما دنا بنفسه من الحق تدلى بعدا ، يعني كلما قرب منه نزل بساحة البعد كناية عن نفيهما جميعا أو عن إدراك حقيقته إذ لا يدركها أحد ، ولا دنو للحق ولا بعد ، لاستحالتهما . وأما قوله تعالى : فإني قريب » فتمثيل لكمال علمه وإجابة لتعاليه عن القرب مكانا . ويتأول في الدنو ما يتأول في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري حكاية عن ربه تبارك وتعالى : «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا» ،

                                                                                                                                                                                                                              وهو تمثيل يقرب المعنى للأفهام ، أي من تقرب إلى طاعتي جازيته بأضعاف ما تقرب به إلي . «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» ، أي سبقته بجزائه ، فهو أقرب بالإجابة والقبول ، وإتيان بإحسان ، وتعجيل المأمول ، ثوابا مضاعفا على حسب ما تقرب به ، وقد سبق به طريق المشاكلة فسماه تقربا» .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع : تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه تبارك وتعالى في طلب التخفيف كان عند الخامسة ، ومقتضى رواية ثابت أنه كان بعد السابعة . العاشر : قوله «فعلا به الجبار» ، وهو مكانه تقدم ما فيه . الحادي عشر : رجوعه بعد الخمس ، والمشهور في الأحاديث أن موسى أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى خمس فلم يرجع . الثاني عشر :

                                                                                                                                                                                                                              زيادة ذكر «التور» بالتاء المثناة في الطست ، فإنه قال : «أتي بطست من ذهب فيه تور من [ ص: 158 ] ذهب» ، فيحتمل أنه طست صغير داخل طست كبير لئلا يتبدد منه شيء فيكون في الكبير .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه ورواية شريك أنهم غسلوه بماء زمزم فيحتمل أن يكون أحدهما فيه ماء زمزم والآخر هو المحشو بالإيمان ، ويحتمل أن يكون التور ظرف الماء والإيمان والطست لما يصب فيه عند الغسل صيانة له عن التبدد في الأرض وجريا له على العادة في الطست وما يوضع فيه الماء .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية