الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الثالث : في موادعته صلى الله عليه وسلم اليهود ، وكتبه بينه وبينهم كتابا بذلك ، ونصبهم العداوة له ولأصحابه حسدا وعدوانا ، ونقضهم للعهد

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : "وكتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم ، واشترط عليهم وشرط لهم" . أي لما امتنعوا من اتباعه ، وذلك قبل الإذن بالقتال وأخذ الجزية ممن أبى الإسلام ، وذكر ابن إسحاق نسخة الكتاب ، وهو نحو ورقتين بغير إسناد ، ورواه أبو عبيد في كتاب الأموال بسند جيد عن الزهري ، ولعلي أذكره في أبواب مكاتباته- صلى الله عليه وسلم- . [ ص: 383 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عائذ عن عروة بن الزبير : أن أول من أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من اليهود أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطب ، فسمع منه ، فلما رجع قال لقومه : "أطيعوني ، فإن هذا هو النبي الذي كنا ننتظره" فعصاه أخوه ، وكان مطاعا فيهم ، فاستحوذ عليهم الشيطان فأطاعوه .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو سعيد النيسابوري في "الشرف" عن سعيد بن جبير قال : "جاء ميمون بن يامين ، وكان رأس يهود ، إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال : "يا رسول الله ابعث إليهم واجعلني حكما بينهم ، فإنهم يرجعون لي" فأدخله داخلا ، ثم أرسل إليهم ، فأتوه ، فخاطبوه ، فقال : "اختاروا رجلا يكون حكما بيني وبينكم" .

                                                                                                                                                                                                                              قالوا : "قد رضينا ميمون بن يامين" . فلما خرج إليهم قال : "أشهد أنه رسول الله" . فأبوا أن يصدقوه .


                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : "قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : "لو آمن بي عشرة من أحبار يهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي حاتم وأبو سعيد النيسابوري وزاد في آخره قال : "وقال كعب : اثني عشر" ، وتصديق ذلك في [سورة المائدة] : وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا [المائدة 12] قال الحافظ : فعلى هذا فالمراد عشرة مختصة ، وإلا فقد آمن به صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة ، وقيل [ ص: 384 ] المعنى : "لو آمن في الزمان الماضي كالزمن الذي قبل قدوم النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة أو حال قدومه" . قال الحافظ : "والذي يظهر أنهم وهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في يهود ، ومن عداهم كان تبعا لهم ، فلم يسلم منهم إلا القليل ، كعبد الله بن سلام ، وكان من المشهورين بالرياسة في يهود بني قينقاع عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم . ومن بني النضير : أبو ياسر- بتحتية وسين فراء مهملتين- ابن أخطب- بخاء معجمة فطاء مهملة فموحدة- وأخوه حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف وأبو رافع سلام بن الربيع بن أبي الحقيق- بقافين مصغر . ومن بني قينقاع : سعد بن حنيف ، وفنحاص- بفاء مكسورة فنون ساكنة فحاء مهملة فألف فصاد مهملة- ورفاعة بن زيد [ابن التابوت] . ومن بني قريظة : الزبير- بفتح الزاي- ابن باطى بن وهب ، وكعب بن أسد ، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب ، وشمويل بن زيد ، فهؤلاء لم يثبت أحد منهم ، وكان كل منهم رئيسا في اليهود ، لو أسلم لتبعه جماعة ، فيحتمل أن يكونوا المراد .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو نعيم في "الدلائل" من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : "لو آمن بي الزبير بن باطى وذووه من رؤساء لأسلموا كلهم" . وأغرب السهيلي فقال : لم يسلم من أحبار اليهود إلا اثنان : عبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوري . قال الحافظ : كذا قال ، ولم أر لعبد الله بن صوري إسلاما من طريق صحيحة ، فإنما نسبه السهيلي في موضع آخر لتفسير النقاش .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : "ونصبت بعد ذلك أحبار يهود لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- العداوة بغيا وحسدا وضغنا ، لما خص الله تعالى به العرب من اصطفاء رسوله منهم . وكانت أحبار يهود ، هم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل ، وكان القرآن ينزل فيهم وفيما يسألون عنه ، إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها" .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن إسحاق وغيره أسماء اليهود ، ولا حاجة بي هنا إلى ذكرهم ، بل من جاء ذكره في كتابي تكلمت عليه ، وكانوا ثلاث قبائل : قينقاع- بفتح القاف وتثليث النون وبالعين المهملة ، ويجوز صرفه على إرادة الحي ، وترك صرفه على إرادة القبيلة أو الطائفة- وهم الوسط من يهود المدينة . وإذا قلت : بنو قينقاع فالوجه الصرف ، وقريظة- بقاف مضمومة فظاء معجمة مشالة ، وهو أخو النضير ، والوسط من يهود المدينة ، والنضير- بضاد معجمة ساقطة ، وزن كريم .

                                                                                                                                                                                                                              وحاربته الثلاثة ، ونقضوا العهد الذي بينه وبينهم ، فمن على بني قينقاع ، وأجلى بني النضير ، وقتل بني قريظة ، وسبى ذريتهم ، ونزلت سورة الحشر في بني النضير ، وسورة الأحزاب في بني قريظة ، وسيأتي بيان ذلك مفصلا في المغازي إن شاء الله تعالى . [ ص: 385 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية