الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      العاشرة : خبر الواحد والطائفة المحصورة إذا أجمع الفقهاء على قبوله والعمل به كإجماعهم على الخبر المروي في ميراث الجدة ، وفي إنه { لا وصية لوارث } ، وفي أنه { لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها } يدل على الصدق قطعا عند الأستاذين أبي إسحاق وتلميذه أبي منصور ، والقاضي أبي الطيب ، والشيخ أبي إسحاق ، وسليم الرازي ، وابن السمعاني ، ونقله الغزالي في المنخول " عن الأصوليين . ونقله إلكيا الطبري عن الأكثرين ، ونقل عن الكرخي ، وأبي هاشم ، وأبي عبد الله البصري . وقال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن " : إن الأمة مجمعة على إثباته ، وأنه حق وصدق ، ومثله بخبر { في خمس أواق ، وخمس ذود ، وعشرين دينارا ، وأربعين من الغنم الزكاة } . قال : كما أنها إذا أجمعت على ترك الخبر وعدم العلم به دل على خلافه .

                                                      وذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يدل على القطع بصدقه ، وإن تلقوه [ ص: 112 ] بالقبول قولا ونطقا ، وقصاراه غلبة الظن . واختاره إمام الحرمين والغزالي وإلكيا الطبري وغيرهم ، فإن تصحيح الأمة للخبر يجري على حكم الظاهر ، فإذا استجمع شروط الصحة أطلق عليه المحدثون الصحة ، فلا وجه للقطع والحالة هذه . وقيل : بالتفصيل بين أن يتفقوا على العمل به ، فلا يقطع بصدقه ، وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد ، وإن تلقوه بالقبول قولا ونطقا حكم بصدقه . ونقلهإمام الحرمين عن ابن فورك . وقال المازري : الإنصاف التفصيل ، فإن لاح من سائر العلماء مخايل القطع والتصميم وأنهم أسندوا التصديق إلى يقين ، فلا وجه للتشكيك ، ويحمل على أنهم علموا صحة الحديث من طرق خفيت علينا ، إما بأخبار نقلت متواترة ، ثم اندرست أو بغيرها ، وإن لاح منهم التصديق مستندا إلى تحسين الظن بالعدول بالبدار إلى القبول فلا وجه للقطع . ا هـ .

                                                      وقال إلكيا الطبري : فأما إذا اجتمعت الأمة على العمل بخبر الواحد لأجله ، فهذا هو المسمى مشهورا عند الفقهاء ، وهو الذي يكون وسطه وآخره على حد التواتر ، وأوله منقول عن الواحد ، ولا شك أن ذلك لا يوجب العلم ضرورة ، فإنه لو أوجبه ثبتت حجة النصارى ، واليهود ، والمجوس في أشياء نقلوها عن أسلافهم ، ونحن نخالفهم . وقد قال أبو هاشم في مثل ذلك : إن توافق الأمة على العمل به يدل على أن الحجة قد قامت به في الأصل ; لأن عادتهم فيما قبلوه من الأخبار قد جرت بأن ما لم تقم به الحجة لا يطبقون على قبوله ، فلما أطبقوا على قبوله فقد عظموا النكير على من خالفهم . ومنه أخبار أصول الزكاة [ ص: 113 ] والعبادات ، ولذلك اختلفوا فيما لم تقم به الحجة من الأخبار ، كرواية بروع بنت واشق ، وروايات أبي هريرة . قال : وبمثله احتججنا بالأخبار الواردة على صحة الإجماع ، فإنها وإن كانت أخبار آحاد ، ولكن تلقتها الأمة بالقبول ، ومنعت بسببها مخالفة الإجماع ، وشددت النكير على المخالف . فإن قيل : خبر الواحد ظني ، ولا يتفق جمع لا يحصون على الظن ، كما لا يتفقون على القياس ؟ قيل : الصحيح جواز استناد الإجماع إلى القياس ، ونقل إلكيا الطبري عن القاضي أبي بكر أنه قال : لا تتصور هذه المسألة ; لأن خبر الواحد إذا لم يوجب العلم ، فلا يتصور اتفاق الأمة على انقطاع الاحتمال حيث لا ينقطع ، واختار ذلك ابن برهان ، فقال : عدد التواتر إذا أجمعوا على العمل عن الواحد لم يصر متواترا ، وهل يفيد القطع أم لا ؟ قال : ولا يتصور هذا ; لأن خبر الواحد مظنون ، والظني لا ينقلب قطعيا . ونقل إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر أن تلقي الأمة بالقبول لا يقتضي القطع بالصدق للاحتمال . ثم قال : ثم قيل للقاضي : لو دفعوا هذا الظن ، وباحوا بالصدق ؟ فقال مجيبا : لا يتصور هذا ، فإنهم لا يصلون إلى العلم بصدقه ، ولو نطقوا لكانوا مجازفين ، وأهل الإجماع لا يجمعون على باطل . [ ص: 114 ]

                                                      قال أبو نصر بن القشيري : هكذا ذكره الإمام ، وقد حكيت عن القاضي أنه بين في كتاب التقريب " أن الأمة إذا أجمعت أو أجمع أقوام لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب من غير أن يظهر فيهم التواطؤ على أن هذا الخبر صدق - كان ذلك دليلا على الصدق . قال : فهذا عكس ما حكاه الإمام عنه . وقوله : إنهم لو نطقوا بهذا عن أمر علموه ، ذلك كلام لا يستند لأنا لا نطالب أهل الإجماع بمستند إجماعهم . وقال : ولعل ما حكاه الإمام فيما إذا تلقته الأمة بالقبول ولكن لم يحصل إجماع على تصديق المخبر ، فهذا وجه الجمع . ا هـ وهو بعيد ، وكلام الإمام يأباه . وجزم القاضي عبد الوهاب في الملخص " بصحة ما إذا تلقوه بالقبول ، قال : وإنما اختلفوا فيما إذا أجمعت على العمل بموجب الخبر لأجله ، هل يدل ذلك على صحته أم لا ؟ على قولين . قال : وكذلك إذا عمل بموجبه أكثر الصحابة ، وأنكروا على من عدل عنه ، فهل يدل على صحته وقيام الحجة به كحديث أبي سعيد وعبادة في الربا ، وتحريم المتعة . فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون حجة بذلك ، وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يدل على حجيته . قال : فهذا فرع الكلام في خلاف الواحد والاثنين ، هل يكون خلافا معتدا به ؟ والصحيح الاعتداد به ، وحينئذ يمتنع مع هذا أن لا يدل على صحة الخبر . ا هـ . [ ص: 115 ]

                                                      وقال ابن الصلاح : إن جميع ما اتفق عليه البخاري ومسلم مقطوع بصحته ; لأن العلماء اتفقوا على صحة هذين الكتابين والحق أنه ليس كذلك ، إذ الاتفاق إنما وقع على جواز العمل بما فيهما ، وذلك لا ينافي أن يكون ما فيهما مظنون الصحة ، فإن الله تعالى لم يكلفنا القطع ، ولذلك يجب الحكم بموجب البينة ، وإن لم تفد إلا الظن .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية