الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ حكم ما رواه أهل البدع ] وأما الذي من أهلها وهم المبتدعة ، فإن كفر ببدعته كالمجسمة إذا قلنا بتكفيرهم ، فإن علمنا من مذهبهم جواز الكذب إما لنصرة رأيهم أو غير ذلك لم تقبل روايتهم قطعا ، كذا قالوه . وقيده بعضهم بما إذا اعتقدوا جوازه مطلقا ، فإن اعتقدوا جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة العقيدة ، أو الترغيب في الطاعة ، أو الترهيب عن المعصية ردت روايتهم فيما هو متعلق بذلك الأمر الخاص فقط ، وإن اعتقدوا حرمة الكذب ، فقولان . قال الأكثرون : لا تقبل ، ومنهم القاضيان أبو بكر ، وعبد الجبار ، والغزالي ، والآمدي قياسا على الفاسق ، بل هو أولى ، وقال أبو الحسين البصري : يقبل ، وهو رأي الإمام وأتباعه ; لأن اعتقادهم حرمة الكذب يمنعهم من الإقدام عليه ، فيحصل صدقه ، فيجب العمل به وهذا التفصيل في الكافر بالبدعة ذكره في المحصول " . أطلق القاضي عبد الوهاب في الملخص " ، وابن برهان في ، الأوسط " عدم قبول رواياتهم مطلقا ، وقال : لا خلاف فيه ، وجرى عليه ابن الصلاح وغيره من المحدثين . وأما المبتدع إذا لم يكفر ببدعته ، فإن كان ممن يرى الكذب والتدين [ ص: 144 ] به لم يقبل بالاتفاق ، وإلا فاختلفوا فيه على أقوال . أحدها : رد روايته مطلقا ; لأنه فاسق ببدعته ، وإن كان متأولا يرد كالفاسق بغير التأويل ، كما لا يقبل الكافر مطلقا ، وبه قال القاضي ، والأستاذ أبو منصور ، والشيخ أبو إسحاق في اللمع " . قال الخطيب البغدادي : ويروى عن مالك ، واستبعده ابن الصلاح لأن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة . وقال ابن دقيق العيد : لعل هذا القول مبني على القول بتكفيرهم ، ورواية الكافر غير مقبولة ، وغاية ما يقال في الفرق : أنه غير عالم بكفره ، وذلك ضم جهل إلى كفر ، فهو أولى بعدم القبول ، وما قاله ممنوع ، فإن التفريع على عدم تكفيره بالبدعة ، وإنما مأخذ الرد عندهم الفسق ، ولم يعذروه بتأويله ، وقالوا : هو فاسق بقوله ، وفاسق لجهله ببدعته ، فتضاعف فسقه .

                                                      والثاني : يقبل سواء دعا إلى بدعته أو لا ، إذا كان ممن لا يستحل الكذب ، كما سبق من تصوير المسألة ، وهو قضية مذهب الشافعي . قال الحافظ ابن عدي : قلت ; للربيع : ما حمل الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى مع وصفه إياه بأنه كان قدريا ؟ فقال : كان الشافعي يقول : لأن يخر إبراهيم من السماء أحب إليه من أن يكذب . وقال الخطيب : وهذا مذهب الشافعي ; لقوله : هل هو إلا من الخطابية الرافضة ; لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم قال : ويحكى عن ابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبي يوسف القاضي ، وقال أبو نصر بن القشيري : إلى هذا ميل الشافعي ، وقبل شهادة هؤلاء والخوارج مع استحلالهم الدماء [ ص: 145 ] والأموال لتوقيهم الكذب واعتقادهم كفر فاعله ، وقال ابن برهان : إنه الصحيح ، وقول الشافعي ; لقوله : أقبل شهادة أهل الأهواء والبدع إلا الخطابية ، فإنهم يتدينون بالكذب ، وقال محمد بن الحسن : إذا كنا نقبل رواية أهل العدل ، وهم يعتقدون أن من كذب فسق ، فلأن نقبل رواية أهل الأهواء ، وهم يعتقدون أن من كذب كفر بطريق الأولى . قال : وتحقيق ما ذكرناه أن أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما رووا في كتبهم عن أهل الأهواء حتى قيل : لو حذفت رواياتهم لابيضت الكتب . ا هـ .

                                                      وقد اعترض الشيخ الهندي في النهاية " على كون الخطابية من هذا القبيل ، بأن المحكي في كتب المقالات ما يوجب تكفيرهم قطعا . قال : فإن صح ذلك عنهم لم يكونوا من قبيل ما نحن فيه ، بل من قبيل الكفرة من أهل القبلة ، فيكون الاستثناء في كلام الشافعي منقطعا . وقال ابن دقيق العيد : هذا هو المذهب الحق ; لأنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر عن صاحب الشرع ، وإذا لم نكفره وانضم إليه التقوى المانعة من الإقدام على ما يعتقد تحريمه فالموجب للقبول موجود ، وهو الإسلام مع العدالة الموجبة لظن الصدق ، والمانع المتخيل لا يعارض ذلك الموجب ، بل قد يقويه كما في الخوارج الذين يكفرون بالذنب ، والوعيدية الذين يرون الخلود بالذنب ، وإذا وجد المقتضى وزال المانع ، وجب القبول . [ ص: 146 ] وأطلق الماوردي والروياني القول بقبول رواياتهم ، وهو محمول على هذا التفصيل ، وكذلك قال إلكيا الطبري : الفساق بسبب العقيدة كالخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع اختلف في قبول روايتهم ، والصحيح الذي عليه الجمهور أن رواياتهم مقبولة ، فإن العقائد التي تحلوا بها لا تهون عليهم افتعال الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأصل الثقة ، وهو في حق المتأول والمحق سواء .

                                                      نعم الشافعي لا يقبل شهادة الكافر على الكافر مع أنه عدل في دينه من حيث إن الشهادة تستدعي رتبة ووقارا ، ولذلك لم يكن العبد من أهلها بخلاف الرواية ، فإنها إثبات الشرع على نفسه وغيره ، فاستدعت مزيد منصب . والثالث : إن كان داعيا إلى بدعته لم يقبل ، وإلا قبل ، وبه جزم سليم في التقريب " ، وحكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص " عن مالك ; لقوله : لا تأخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه . قال القاضي عياض : وهذا يحتمل أن يريد أنه إذا لم يدع يقبل ، ويحتمل أنه أراد لا يقبل مطلقا ، ويكون قوله : يدعو لبيان سبب تهمته ، أي لا تأخذ عن مبتدع ، فإنه ممن يدعو إلى هواه ، وهذا هو المعروف من مذهبه . ا هـ . قال الخطيب : وهو مذهب أحمد ، ونسبه ابن الصلاح ; للأكثرين ، قال : وهو أعدل المذاهب ، وأولاها ، وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا ، كعمران بن حطان ، وداود بن الحصين ، وغيرهما . وقد نقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات " الإجماع على الأمرين ، [ ص: 147 ] فقال في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي : فليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف في أن الصدوق التقي إذا كان فيه بدعة ، ولم يكن يدعو إليها ، أن الاحتجاج بأخباره جائز ، فإذا دعا إلى بدعته سقط . الاحتجاج بأخباره . ا هـ . وقال ابن دقيق العيد : جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه ، وليس كما قاله . نعم ، في هذا المذهب وجه أنه إذا روى المبتدع الداعية ما يقوي به حجته على خصمه ، وكذلك إذا لم يكن داعية إلا أنه أضعف من الأول . قال : نعم ، الذي أختاره أن الداعية إذا روى ، فإما أن يروي ما ينفرد به عن غيره ، ولا يوجد إلا عنده أو ما يوجد عند غيره ، فإن كان الأول روي عنه ; لأن الرواية عنه هاهنا في مرتبة الضرورة ، وإن كان يوجد عند غيره لم يرو عنه ، لا ; لأن روايته باطلة ، بل لإهانته وعدم تعظيمه . ا هـ ، وهو تفصيل غريب .

                                                      وما حكاه عن بعض المتأخرين كأنه يريد به ابن القطان المحدث ، فإنه قال في كتاب الوهم والإيهام " : الخلاف في غير الداعية ، أما الداعية فهو ساقط عند الجميع ، وليس كما قال . وفعل أبو علي الغساني من المحدثين ، فقال : إن ضم إلى بدعته افتعاله الحديث ، وتحريف الرواية ; لنصرة مذهبه لم يقبل ، وإلا قبل . وهذا التفصيل لا وقع له ، فإن ذلك متروك ، ولو لم يكن صاحب بدعة . [ ص: 148 ]

                                                      تنبيهات . الأول [ المراد بالداعية إلى البدعة ] الأول : يتبادر أن المراد بالداعية الحامل على بدعته ، لكن قال أبو الوليد الباجي : الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهرها ، ويحقق عليها ، فأما الداعي بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية