الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المرتبة الثامنة : أن يقول : كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم ، أو كانوا يفعلون كذا . فأطلق الآمدي ، وابن الحاجب ، والهندي أن الأكثرين على أنه حجة ، وإن لم يضفه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم . والتحرير أن لهذه المرتبة ألفاظا . أحدها : أن يقول : كان الناس يفعلون ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم فلا يتجه في كونه حجة خلاف لتصريحه بنقل الإجماع المعتضد بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم . وثانيها : أن يقول كنا نفعل في عهده صلى الله عليه وسلم ، فهذه دون ما قبلها لاحتمال عود الضمير في كنا إلى طائفة مخصوصة . وحكى القرطبي في هذه المسألة ثلاثة أقوال . قال : فقبله أبو الفرج من أصحابنا ، ورده أكثر أصحابنا ، وهو الأظهر من مذهبهم . قال القاضي أبو محمد يعني عبد الوهاب : والوجه التفصيل بين [ ص: 306 ] ما يكون شرعا مستقرا ، كقول أبي سعيد : { كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير } ، الحديث . فمثل هذا لا يستحيل خفاؤه عليه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان مما يمكن خفاؤه ، فلا يقبل ، كقول رافع بن خديج ، كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ، وقيل : لعل الأولى في ذلك أن الصحابي إن ذكر ذلك في معرض الحجة حمل على الرفع ، وإلا فلا أثر . وما حكاه عن القاضي أبي محمد قطع به الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ، والذي رأيته في كلام القاضي أبي محمد يعني عبد الوهاب إنما هو التفصيل بين ما لا يثبت إلا بالشرع ، ولم يكن مستصحبا يخفى مثله ، فيجب حمله على عمله صلى الله عليه وسلم وأمره به ، كقول أبي سعيد في صدقة الفطر ، وإن كان مما يستند إلى عادة يفعلونها فمحتمل ، حتى يقوم دليل يمنع الاحتمال ، كأن يورده على جهة الاحتجاج . وقال القاضي في " التقريب " : إن أضاف فعلهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإيقاعه على وجه يعلم عليه السلام تكرر وقوعه ، فهو حجة لتقريره ، وإلا فلا .

                                                      ثالثها : أن يقول كان الناس يفعلون ذلك ، ولا يصرح بعهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه دون الثانية ، لعدم التصريح بالعهد ، وفوقها الإضافة إلى [ ص: 307 ] جميع الناس وحكى القاضي أبو بكر في " التقريب " في ثبوت الإجماع بذلك قولين . رابعها : أن يقول : كانوا يفعلون ، أو كنا نفعل ، وهو دون الكل ; لعدم التصريح بالعهد ، وبما يعود عليه الضمير ، قيل : ومذهب الحنفية والحنابلة أنه إجماع ، وقال الغزالي : إذا قال التابعي كانوا يفعلون كذا ، فلا يدل على فعل جميع الأمة ، فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقل الإجماع ، وفي ثبوت الإجماع بخبر الواحد خلاف مشهور . وقال ابن السمعاني في " القواطع " : إذا قال الصحابي : كانوا يفعلون كذا ، فهو على ثلاثة أضرب : أحدها : أن يضيفه إلى عصر النبي صلى الله عليه وسلم وكان مما لا يخفى مثله ، يحمل على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم ويكون شرعا لنا . وإن كان مثله يخفى بأن يكون منهم ذكره حمل على إقراره ، لأن الأغلب فيما يكثر أنه لا يخفى كقول أبي سعيد : { كنا نخرج صدقة الفطر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من بر أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر } ، وعلى هذا إذا أخرج الراوي الرواية مخرج التكثير بأن قال : كانوا يفعلون كذا ، حملت الرواية على عمله وإقراره ، فصار المقول شرعا . وإن تجرد عن لفظ التكثير كقوله : فعلوا كذا فهو محتمل ولا يثبت شرع باحتمال .

                                                      الثاني : أن يضيفه إلى عصر الصحابة ، فينظر ، فإن كان مع بقاء عصر الصحابة ، فليس بحجة ، وإن كان بعد انقراض عصرهم . فهو حكاية عن إجماعهم فيكون حجة . [ ص: 308 ] الثالث : أن يطلقه ولا يضيفه إلى أحد العصرين ، فإن كان عصر الصحابة باقيا فهو مضاف إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان عصر الصحابة منقرضا ، فهو مضاف إلى عصر الصحابة ; لأن الحكاية عن ماض ، فإن كان قبل عصر الصحابة ، فالماضي قبله عصر الرسول ، وإن كان بعد عصر الصحابة ، فالماضي قبله عصر الصحابة . تنبيه [ فائدة رعاية هذا الترتيب ] فائدة رعاية هذا الترتيب الترجيح عند التعارض ، فما لا يحتمل أرجح مما يحتمل ، وما يحتمل احتمالا واحدا أرجح مما يحتمل الاثنين ، وهكذا في الباقي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية